حديث الجمعة الديني: “التحكيم”ضوابطه ومجالاته-الحلقة الثانية
30 سبتمبر، 2016المحور الثالث
ما اختلف فيه التحكيم
لقد تشعبت المذاهب الفقهية في الموضوعات التي يجوز فيها التحكيم أو عدمه بين موسّع ومضيّق، على النحو الآتي:
أولاً: مذهب الحنفية.
لا يجوز التحكيم في الحدود بما في ذلك حد القذف على الرأي الراجح لديهم، وكذلك لا يجوز التحكيم في الدية على العاقلة، واللعان حيث يغلب حق الله فيها على حق العبد، وهي ما يخص الامام أو نائبه النظر والحكم فيها. ويجوز التحكيم عندهم في الأموال وفي الطلاق والعتاق والنكاح والكفالة والكفارات، وكذلك في الارش دون الجناية، وسائر الأمور الاجتهادية أيضاً.
أما القصاص فقد اختلف الحنفية فيما بينهم في جواز التحكيم فيه أو عدمه إلى رأيين:
1. الرأي الأول: القول بجواز التحكيم فيه لان القصاص من باب ما اجتمع فيه الحقان: حق الله وحق العبد، وان حق العبد هو الغالب، بدليل ما فيه من مماثلة فيقول سبحانه وتعالى: “وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس” [1]وكذلك لجواز العفو في القصاص لقوله عز وجل: “فمن عُفي له من أخيه شيءٌ”[2] وعللوا ذلك بأن التحكيم عبارة عن تفويض وتولية من المحتكمين، وان كان بمثابة الصلح في حق غيرهما، وهما يملكان استيفاء القصاص بأنفسهما دون السلطان فيصح التفويض إلى غيرهما.
2. الرأي الآخر: لا يجوز التحكيم في القصاص، واستدلوا بما يأتي:
· ان التحكيم بمنزلة الصلح، وكل ما يجوز استحقاقه بالصلح يجوز التحكيم فيه، وان الصلح لا يجوز إلا فيما يجوز ترك الحق فيه. وان حدي القذف والقصاص لا مجال لاستيفائهما بالصلح لعدم صحة ترك الحق فيهما، اذ ان الحق فيهما مشترك بين حق الله وحق العبد، وما لم يتمخض فيه حق العبد لا يصح فيه التحكيم.
· ان الحدود تدرأ بالشبهات لقول الرسول محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم- “ادرؤا الحدود بالشبهات” وفي رواية ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فان كان له مخرج فخلّوا سبيله فإن الامام ان يخطئ في العفو خير من ان يخطئ في العقوبة. [3] ثم انه لا ولاية للمحتكمين في ذلك، اذ لا يملكان إباحة دمهما، ولهذا لا يجوز فيهما حكم المحكم[4].
الترجيح بين الرأيين لدى الحنفية
ما ذهب اليه أصحاب الرأي الثاني هو الأرجح، وان أدلة أصحاب هذا الرأي هي الاقوى لكونها تنسجم مع القواعد العامة للتحكيم، وهو رأي الامام أبي حنيفة ورجحه ابن الهمام وابن نجيم والخصاف، وذلك لان القصاص ليس من حقوق العباد الخالصة، بل هو من قبيل ما اجتمع فيه الحقان: حق الله، وحق العباد؛ إلا أن الغالب فيه هو حق الله. [5]
ثانياً: مذهب المالكية
يرى المالكية ان ما يجوز لاحد الخصمين ترك حقه فيه فانه يجوز فيه التحكيم، وهذه القاعدة العامة تنسجم مع ما قاله أصحاب المذاهب الفقهية الاخرى بأن التحكيم يصح فيما يجوز فيه العفو والابراء، على ضوء القاعدة التي وضعها المالكية فإنه لا يجوز التحكيم، وهذه القاعدة العامة تنسجم مع ما قاله أصحاب المذاهب الفقهية الاخرى بأن التحكيم يصح في ما يجوز فيه العفو والابراء. وعلى ضوء القاعدة التي وضعها المالكية فانه لا يجوز التحكيم أيضاً في الطلاق والعتاق والنسب والولاء لان هذه الامور لا يبت فيها إلا الامام او من ينوب منابه [6]
هذا وقد فصّل الدردير في كتابه الشرح الصغير مجالات التحكيم لدى المالكية بقوله: ” ..وجاز للخصمين تحكيم رجل عادل بأن يكون مسلماً حراً بالغاً عاقلاً غير فاسق وغير خصم… وذلك من مال من ديْن وبيع وشراء فله الحكم بثبوت ما ذكر أو عدم ثبوته، ولزومه وعدم لزومه، وجواز وعدم جوازه، وكذلك في جرح ولو عظم…” ثم يعدد الدردير الامور التي لا يجوز فيها التحكيم وهي: الحد من الحدود كالقصاص أو الجلد أو الرجم، وفي القتل: في ردة أو حرابة أو قصاص، وفي اللعان، وفي الولاء لشخص آخر، وفي النسب كذلك، وفي الطلاق، وفي فسخ النكاح، وفي العتق، وفي الرشد والسنة، وفي أمر غالب مما يتعلق بماله وزوجته وحياته ومماته، وفي الحبس، وفي العقد مما يتعلق بصحته وفساده. وذلك لان هذه الامور انما يحكم فيها القضاة فهي من اختصاصهم، فلا يجوز التحكيم فيها وذلك لتعلق الحق فيها لغير الخصمين: اما حق لله كالحدود، واما تتعلق بحقوق الآخرين كاللعان والنسب والولاء، واذا افترضنا ان التحكيم قد جرى فيث أحد هذه الامور فإنه ينظر: ان كان قرار التحكيم صائباً سليماً فإن قرار المحكم يمضي ولا ينقص لان حكم المحكم يرفع الخلاف. وإن كان قراره غير صائب فإنه يُنقض ويلغى، ومع ذلك فإن المُحكَّم يؤدب من قبل الامام أو القاضي في الحالتين لتجاوزه صلاحية الحاكم[7].
هذا وقد استدل المالكية فيما ذهبوا اليه بما يأتي:
1. لقد استدلوا على منع التحكيم في الحدود بما استدل به الحنفية من كون الحدود تدرأ بالشبهات؛ ولانها من حقوق الله الخالصة التي يقصد منها الزجر عن التعدي على الحرمات، فلا يكون الحكم فيها لغير ولي الامر.
2. ان التحكيم لا يجوز أيضاً في الطلاق والعتاق؛ لان الحكم فيهما يتعارض مع الحكم الشرعي فلا يجوز في الطلاق البائن ردّ المرأة إلى عصمة زوجها حتى ولو أرادت ذلك. وكذلك لا يجوز رد العبد بعد تحريره إلى الرق حتى ولو رضي به.
3. استدل المالكية على عدم جواز التحكيم في الولاء والنسب ؛ لان أطرافاً اخرى، غير المتخاصمين، لهم علاقة بموضوع الولاء وموضوع النسب مثل النكاح أو عدمه، والتوريث أو عدمه بما يمنع التحكيم في الولاء والنسب. وما سوى ذلك فيجوز التحكيم فيه [8]
ثالثاً: مذهب الشافعية ومذهب الحنابلة
حين استعراض آراء الشافعية وآراء الحنابلة في موضوع مجالات التحكيم نرى انها متطابقة، لهذا تناولنا المذهبين معاً.
لقد اختلف أتباع المذهبين: الشافعية والحنابلة فيما بينهم، فيما يجوز فيه التحكيم وفيما لا يجوز إلى رأيين أساسيين:
1. أصحاب الرأي الأول: يجوز التحكيم في كل ما يصح أن يتحاكم فيه الخصمان كما يجوز حكم الذي ولاه الامام؛ لان منْ صح حكمه في حاله صحَّ حكمه في غيره، أي في جميع الحقوق المتعلقة بالله والحقوق المتعلقة بالآدميين[9]
2. أصحاب الرأي الآخر: ينحصر التحكيم في الأحوال دون الامور الاربعة: القصاص، والنكاح، واللعان، وحد القذف، فلا يجوز التحكيم فيها لانها حقوق وحدود بنيت على الاحتياط اذ لا يحكم فيها إلا باليقين والقطع من غير تخمين، فتناط بنظر الحاكم أو نائبه أو ما يقوم مقامه. وكذلك بقية الحدود، فلا يصح فيها التحكيم؛ لانها من حقوق الله المحضة حيث ليس لها طالب معين فتختص بنظر الحاكم لان حكم المحكم لا ينفذ إلا من رضى بتحكيمه فقط.[10]
وان ما ذكره ابن قدامة بجواز التحكيم فيما عدا هذه الاحكام الربعة ليس على اطلاقه، اذ ان المتفق عليه انه لا يصح التحكيم في الحدود كلها، فلعله قد ترت ذكرها لانها معدومة ولانها موضع اتفاق في عدم جواز التحكيم.
هذا وقد تناول الموردي هذه الاحكام وقسمها إلى ثلاثة أقسام:
1. قسم يجوز فيه التحكيم وهو حقوق الاموال وعقود المعاوضات وكل ما يصح فيه العفو والابراء.
2. قسم لا يجوز فيه التحكيم وهو ما اختص القضاء به من حقوق الله تعالى، والولايات على الايتام، وايقاع الحجر على سفيه.
3. قسم مختلف فيه وهو أربعة احكام: النكاح واللعان والقذف والقصاص.
ثم ذكر أن في هذه الاحكام الاربعة وجهين:
أحدهما: جواز التحكيم فيها لوقوفها على رضا المحتكمين.
والوجه الآخر: عدم جواز التحكييم فيها؛ لانها حقوق وحدود يختص الولاة بها.[11]
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين.
________________________________________
[1] – سورة المائدة – الآية 45.
[2] – سورة البقرة- الآية 178.
[3] – اخرجه الترمذي عن ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها، واخرجه الدارقطني عن الصحابي الجليل الامام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه، واخرجه ابن ماجه وأبو يعلى الموصلي عن الصحابي الجليل ابي هريرة رضي الله عنه. وقد روي هذا الحديث النبوي الشريف مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، واحياناً يروى هذا الحديث الشريف موقوفاً عن الصحابة الاجلاء: عمر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. وأحياناً يروى مرسلاً عن الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. (انظر: عارضة الاحزذي بشرح سنن الترمذي، ج6، ص: 198- كتاب الحدود- باب ما جاء في درر الحدود، وسنن الدارقطني، ج3، ص: 84. وسنن ابن ماجه، ج2، ص: 850 رقم 2545. ونصب الراية للزيلعي، ج3، ص: 310، وص: 311. ومنتخب كنز العمال لمتقي على هامش مسند أحمد، ج2، ص: 393. ومسند أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز،ص: 226. وتمييز الطيب من الخبيث للشيباني الشافعي، المعروف بابن الديبع، ص: 12، ومشكاة المصابيح للخطيب التبريزي، ج2، ص: 292، رقم 3570. والاشباه والنظائر للسيوطي، ص: 122 والاشباه والنظائر لابن نجيم، ج1، ص: 161.
[4] – الهداية، ج3، ص: 108. وفتح القدير، ج5، ص: 500، وص: 501. والمبسوط، ج16، ص: 111. والبحر الرائق شرح كنز الدقائق، ج7، ص: 26-28. وحاشية ابن عابدين، ج5، ص: 428. ومعين الحكام ص: 25. والفتاوى الهندية، ج3، ص: 316. وشرح العناية على الهداية للامام أكمل الدين، محمد بن محمود البابرتي على هامش شرح فتح القدير، ج5، ص: 500. وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، لفخر الدين عثمان لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي، ج4، ص: 193. والتحكيم في الشريعة الاسلامية، ص: 223.
[5] – فتح القدير، ج5، ص: 500، وص: 501، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق، ج7، ص: 26.
[6] – التاج والاكليل لمختصر خليل، ج6، ص: 112. والمنتقى شرح موطأ مالك ج5، ص: 229. والشرح الصغير، ج4، ص: 198، وص: 199. وحاشية الصاوي على الشرح الصغير، ج4، ص: 199. وتبصرة الحكام ج1، ص: 55. وأسهل المدارك ج3، ص: 209، وص: 210. وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص: 136,
[7] – ص: 198-ص: 200.
[8] – الشرح الصغير، ج4، ص: 199. وحاشية الصاوي على الشرح الصغير، ج4، ص: 199، والتحكيم في الشريعة الاسلامية ص: 218
[9] – مغني المحتاج، ج4، ص: 379، وقليوبي وعميرة ج4، ص: 298. وروضة الطالبين ج11،ص131،وص: 132. والاقناع ،ج5،ص142، وكتاب ادب القضاء لابن أبي آدم ص: 140، وحاشية الشرواني وابن القاسم، ج11، ص: 118. والمغني،ج10،ص:95. والانصاف،ج11،ص: 197. ومطالب اولي النهى في شرح غاية المنتهى،ج6، ص: 471. والفروع،ج6، ص: 440. وكتاب القضاء في الاسلام- الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس،ص: 175- ص: 177.
[10] – مغني المحتاج، ج8،ص: 230. والمغني،ج10،ص: 95. والقضاء في الاسلام-د. محمد عبد القادر أبو فارس،ص: 176
[11] – كتاب أدب القاضي للماوردي،ج2، ص:380.