حديث الجمعة الديني : “الحج مرة واحدة”
15 سبتمبر، 2016قال الله سبحانه وتعالى :”واذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق “-سورة الحج الاية 7. يتطلع حجاج بيت الله الحرام شوقا الى مكة المكرمة والكعبة المشرفة، وتهفو قلوبهم وتهتز مشاعرهم واحاسيسهم لزيارة قبر رسولنا الاكرم محمد صلى الله عليه وسلم. انهم يتهيأون روحيا ونفسيا وعقليا لاداء ركن من اركان الاسلام، وانهم سيلتقون هناك حول الكعبة المشرفة، وبين الصفا والمروة، وعلى جبل عرفة من مختلف الاجناس والالوان والاعراق واللغات، على صعيد واحدة، لا فرق بين رئيس ومرؤوس، ولا بين امير ومأمور، ولا بين غني وفقير، وقد اتصلوا جميعا بالله عزوجل، وانه لا رب غيره ولا معبود سواه.
حجة الرسول صلى الله عليه وسلم
فرض الله سبحانه وتعالى الحج على المسلمين مرة واحدة في العمر، ويستدل بذلك من السنة النبوية العملية حيث ادى -عليه الصلاة والسلام – فريضة الحج مرة واحدة وكان ذلك في العام العاشر للهجرة، فلو ان الامر خلاف ذلك لاطال الله رب العالمين عمر الرسول صلى الله عليه وسلم ليؤدي الحج مرة اخرى لكن ارادة الله العلي القدير ان ينتقل الرسول عليه الصلاة والسلام الى الرفيق الاعلى للدلالة على ان التشريع الالهي العملي هو ان فريضة الحج على المسلمين هي مرة واحدة بالاضافة الى الاحاديث النبوية القولية الشريفة، تنص على ذلك، في حين فرضت الصلاة على المسلمين خمس مرات يوميا، وفرض الصوم شهرا واحدا في السنة، وفرضت الزكاة مرة واحدة سنويا باستثناء زكاة الزروع والثمار فانها موسمية.
الحكمة من المرة الواحدة
يمكننا ان نستلهم عددا من الحكم بشأن فريضة الحج مرة واحدة في العمر، فمن هذه الحكم:
-1المشقة التي تصاحب اداء مناسب الحج ففيها السفر والغربة، وفراق الاهل والاولاد والاقارب والاحبة، وفيها توقف الاعمال والمصالح الشخصية والمعاملات التجارية والشؤون الوظيفية، وفيها الزحام الشديد حين الطواف حول الكعبة، وبخاصة طواف الافاضة الذي هو ركن من اركان الحج، كما يوجد زحام ايضا اثناء السعي بين الصفا والمروة، وان اشد الزحام يبدأ حين النفرة من جبل عرفة بعد غروب الشمس من يوم عرفة -التاسع من ذي الحجة -، وحين رمي الجمرات. ولا يستطيع الشخص ان يصف طبيعة الازدحام الا من قام بالحج عمليا وشاهد بأم عينيه ولمس بسائر حواسه، وهذا كله من الناحية البدنية، فالله عزوجل علام الغيوب بأن المسلمين سيزداد عددهم وسوف لا تتسع المناسك لهم فشرعها مرة واحدة في العمر.
-2الناحية المالية: يصاحب اداء المناسك نفقات ورسوم مالية متعددة قبل واثناء الشروع في الحج بالاضافة الى ان الحاج ملزم بتأمين النفقات اللازمة لعائلته اثناء غيابه في الحج. اما الهدايا فانها تثقل كاهل الحاج والتي اصبحت الزامية بالمفهوم الاجتماعي والعائلي، نعم ان التهادي فيما بين الناس امر مستحب بالمفهوم الشرعي، ولكنه ليس الزاميا، ويأثم الحاج اذا استدان من اجل شراء الهدايا، وبهذا افتي.
-3ان مناسك الحج دقيقة ومتشعبة فهي بحاجة الى دراسة ودراية واستيعاب، ومعرفة بالاماكن والمواقيت المتعددة والمتداخلة، وينبغي على الحاج ان يبذل الجهد لدراسة مناسك الحج واستيعابها سلفا قبل سفره للحج، وان يحرص على تطبيقها بعد ذلك اثناء تأديته للمناسك على اكمل وجه، وكم من الحجيج يعودون الى بلادهم دون حج!! وذلك بسبب جهلهم لمناسك الحج وللامور التعبدية، ولعدم وجود مرشدين مخلصين لتنوير الحجيج بمناسك الحج. فاقول «ان الطريق الى الحج ليست مفروشة بالورود والرياحين، وعليك ايها الحاج بان تتوقع المشقة والتعب سلفا.
الحج المبرور
ان النجاح في اداء مناسك الحج يبدأ في ان يقوي الحاج علاقته مع الله رب العالمين، وذلك بان يؤدي المناسك بخشوع ودقة على احسن وجه، كما ينبغي ان يحسن علاقته مع الناس بان يعاملهم باللطف والحسنى والمسامحة دونما رفث ولا فسوق ولا جدال ولا لغو، والله سبحانه وتعالى يقول : “الحج اشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج” سورة البقرة الاية ١٩٧ . وهذا النجاح في اداء مناسك الحج واحكامه وادابه يعرف بالاصطلاح الشرعي ب ( الحج المبرور ) اخذ من الحديث الشريف .. “والحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة “-اخرجه البخاري ومسلم ومالك والترمذي والنسائي وابن ماجة والاصبهاني عن الصحابي الجليل ابي هريرة- رضي الله عنه.
ومن نتائج الحج المبرور ان يعود الحاج نظيفا من الاثام والسيئات باستثناء حقوق العباد ان وجدت، وذلك اذا كانت في دفعة حقوق للاخرين، فهذه الحقوق لا يسقط اثمها الا باعادتها اصحابها او بمسامحة صاحب الحقوق له، اي ان حق الله يسقط في الحج المبرور، بينما حق الناس لا يسقط الا باعادته الى صاحبه او ان يسامحه صاحب الحق. وهناك احاديث نبوية شريفة تحث على الحج المبرور فيقول :
1- “افضل الاعمال ايمان بالله ورسوله، ثم جهاد في سبيله، ثم حج مبرور “- رواه البخاري ومسلم عن الصحابي الجليل ابي هريرة -رضي الله عنه.
2- وفي حديث نبوي اخر ” العمرة الى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة “- اخرجه البخاري ومسلم ومالك والترمذي والنسائي وابن ماجه والاصبهاني عن الصحابي الجليل ابي هريرة- رضي الله عنه
3- وفي حديث نبوي شريف ثالث: “من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته امه “- رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجة عن الصحابي الجليل ابي هريرة- رضي الله عنه .. وفي رواية (خرج) بدلا من (رجع ) والمعنى واحد. بالاضافة الى الاحاديث النبوية الشريفة التي تحذر المقتدرين لتخلفهم عن اداء فريضة الحج، وان حسابهم يوم القيامة سيكون عسيرا.
عقد النية للحج
قد يسأل سائل: انه يرغب في اداء الحج للمرة الاولى، ولم يسبق له ان ادى فريضة الحج، ولكن تحديد الاعداد للحجيج مع تزاحم الطلبات الكثيرة لم يسمح له بالحج، او منعه مانع بسبب من الاسباب القاهرة التي هي فوق ارادته فكيف يتصرف؟ وماذا يعمل؟
والجواب: الاصل ان يعقد المسلم النية للحج فان سمح له بالخروج الى الحج فانه يؤدي الفريضة. وان لم يسمح له فالاثم على من كان سببا في منعه وحرمانه. فان توفي الشخص ولم يحج للمرة الاولى وكان عاقدا النية للحج فلا اثم عليه، لذا يتوجب على ورثته تخصيص المبلغ الكافي للحج عنه مستقبلا، وذلك من تركة المتوفي قبل توزيعها على الورثة المستحقين. اما ان لم يترك المتوفي مالا يكفي للحج عنه فان الحج يسقط عنه، ويمكن لاولاده ان يحجوا عن والدهم برا ووفاء له. وانصح كل مسلم بالغ عاقل، لم يسبق له ان ادى فريضة الحج، ان يعقد النية للحج في كل عام حتى يسمح له وحتى تتهيأ الاسباب الموجبة لاداء المناسك قبل ان يفاجئه الموت. اما المقتدرون الذين لم ينووا للحج ولم يخططوا لاداء فريضة حجة الاسلام، وماتوا وهم على ذلك فان اثمهم كبير وعظيم ولا ندري على اي ملة سيموتون!! واقول للذين سبق لهم اداء فريضة الحج ان يفسحوا المجال للذين لم يسبق لهم ان ادوا الحج للمرة الاولى، لان ذهاب الشخص مرة اخرى للحج سيحرم شخصا اخر لم يحج مطلقا، وفي ذلك اثم كبير لانه يكون قد حجز مقعد غيره فيكون سببا في منع هذا الشخص لان يحج حجة الاسلام. اما اذا كرر الشخص الحج ولم يؤثر على مقعد غيره اي لم يكن ذهابه سببا في حرمان غيره فلا مانع من ذلك شرعا كأن يكون ضيفا او عضوا في بعثة الحج. ومع ذلك اقول للذي سبق له ان ادى حجة الاسلام، اقول له: انصحك بكفالة الايتام وبالتبرع للعائلات المنكوبة والمهجرة والمحتاجة والمحرومة بالمبلغ الذي خصصته للحج المكرر، ففي ذلك الثواب العظيم واجدي لك، وبهذا افتي والله اعلم.
اللهم ارزقنا حجا مبرورا، وسعيا مشكورا، وذنبا مغفورا، وتجارة لن تبور.
اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل وارزقنا اليقين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين