حديث الجمعة الديني : “العنكبوت والإعجاز القرآني”
17 ديسمبر، 2016مقدمة
تشير الأبحاث العلمية أن العناكب لا تنتمي إلى فصيلة الحشرات، وإنما تنتمي إلى فصيلة العنكبيات، وهي فرع من المفصليات، وهي بذلك لها صلة مع العقارب. والعناكب أنواعها كثيرة، وتنقسم إلى قسمين: قسم سام، وقسم غير سام. وإن كمية السم الموجودة في العنكبوت الواحد لا تزيد عن 1/10 ملغم، ولكن تأثيرها قوي، كما يقول علماء الأحياء. هذا ومن علماء الأحياء من اعتبر العناكب من الحشرات أيضاً.
العنكبوت في القرآن الكريم
لقد وردت سورة في القرآن الكريم باسم (العنكبوت) وورد ذكر العنكبوت مرة واحدة فقط من خلال سورة العنكبوت. والملاحظ أن القرآن الكريم قد استدل بعدة أنواع من المخلوقات الصغيرة مثل: النمل، النحل، البعوض، العنكبوت. وذلك لبيان قدرة الله عزّوجل في مخلوقاته، ولضرب الأمثال بها.
هذا وان العنكبوت التي ورد ذكرها في القرآن الكريم هي أنثى العنكبوت وليس الذكر، لأن الله عزّوجل قال: “ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ” بصيغة فعل التأنيث أي أن أنثى العنكبوت هي التي تبني البيت، فيقول سبحانه وتعالى: “ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ “- سورة العنكبوت- الآية 41.
وصف بيت العنكبوت
لقد وصف الله رب العالمين بيت العنكبوت بأنه واهن أشد الوهن، أي ضعيف أشد الضعف، وان علماء التفسير الأوائل شرحوا الآية الكريمة على ضوء ظاهر النص بأن المشركين والكفار الذين يعبدون من دون الله مثلهم كمثل العنكبوت التي اتخذت بيتاً واهناً أشد الوهن، وأن هؤلاء قد عبدوا الأصنام أو الأوثان أو الحجارة أو الأشخاص… بهدف جلب النفع أو دفع الضر، وهكذا يتوهمون… فإن وضعهم واهن أشد الوهن كبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون الحقيقة.
والملاحظ أن القرآن الكريم يضرب الأمثال والتشبيهات لتقريب المعاني وتبسيط الأفكار والمفاهيم، ولمناقشة الخصوم المعاندين والمكابرين، ولإقناعهم بالرأي السليم السديد.
نسيج العنكبوت
إن أنثى العنكبوت هي التي تنسج بيتها حيث تفرز مادة لزجة تكوّن منها الخيوط، مع الإشارة إلى أن القرآن الكريم أورد في الآية الكريمة لفظ (البيت) ولم يورد لفظ (الخيط). هذا وأن العنكبوت يتكاثر بالبيض حيث تضع الأنثى بيضها في كيس من الحرير، وعندما يفقّس البيض تخرج العناكب الصغار فتجد نفسها في مكان ضيق شديد الازدحام داخل كيس البيض، ويبدأ الصراع بين هذه العناكب الصغيرة يقتل بعضها بعضاً حتى يتمزق جدار كيس البيض!.
أين الإعجاز
لقد تمكن العلم الحديث من اكتشاف أمور جديدة في عالم العنكبوت لا تتعارض مع تفسير العلماء الأوائل لبيت العنكبوت، وإنما تقويها وتعاضدها. فإن تفسير العلماء الأوائل كان يقوم على تفسير ظاهر النص تفسيراً مادياً بأن بيت العنكبوت واهن شديد الوهن سرعان ما ينهدم، ولا يقوى على الظواهر الطبيعية من الحر والبرد، ومن العواصف الرياح.
أما علماء العصر الحديث فقد تعمقوا في تفسير آية العنكبوت تفسيراً مجازياً وتوصلوا إلى ما يأتي:
- إن أنثى العنكبوت هي صاحبة البيت ، كما ورد في القرآن الكريم، فهي التي تنسجه، وبعد ذلك تقوم بمغازلة الذكر وتغريه وترحب به، ثم تقتله وتغدر به، وذلك بعد أن يقوم بتلقيحها!! فهي تستطيع قتله لأنها أكبر منه حجماً وأقوى منه. وأحياناً يهرب الذكر من البيت بعد تلقيحه للأنثى إن استطاع الهروب خوفاً من الغدر والقتل!! ولهذا لقبت أنثى أحد أنواع العناكب السامة ب (الأرملة السوداء).
- إن صغار العناكب يقتل بعضها بعضاً أيضاً، ويأكل الحي منها الميت بسبب الجوع. وبعد أن يكبر الأبناء الصغار ويشتد عودهم- مما تبقى من العناكب- فإنهم يقتلون الأم ويأكلونها!! وهذا هو العقوق.
- وهكذا دواليك من الصراع الداخلي الذي ينتاب الأسرة الواحدة العنكبوتية ، فالعلاقة الاجتماعية في الأسرة العنكبوتية مفككة وواهية، بل متقطعة وهذا يؤدي حتماً إلى ضعف البيت وهزاله من الداخل، وبذلك يفتقر بيت العناكب إلى المودة والرحمة والرأفة فيما بينها. وعليه فيمكن القول إن الوهن المقصود في الآية الكريمة هو الوهن الاجتماعي الداخلي.
- هناك قول منسوب للصحابي الجليل الإمام علي بن أبي طالب –كرم الله وجهه ،ورضي الله عنه- مفاده: (طهروا بيوتكم من نسيج العنكبوت فإن تركه في البيوت يورث الفقر) وهذا القول يشير إلى الكسل وعدم النظافة في البيوت، وبالتالي فإن الكسول لا يعمل ، مما يؤدي به إلى الفقر.
- إن الله العلي القدير قد ضرب مثل أولئك الكفار والمشركين ومن على شاكلتهم كمثل بيت العنكبوت، وهذا تشبيه بليغ حيث يشتركون جميعاً بالضعف والهوان، والملاحظ أن القرآن الكريم ذكر كلمة (البيت) ولم يقل كلمة (الخيط) وهنا يكمن الإعجاز لأن العلم الحديث أثبت أن خيوط العنكبوت قوية متينة، وعليه فإن (الوهن) في العنكبوت يكمن في الوهن الاجتماعي من داخل البيت، فهي إشارة إعجازية قرآنية على وهن البيت اجتماعياً، وهذا درس لأي دولة تبتلى بالخلافات والنزاعات الداخلية ، مما يؤدي إلى ضعفها وإلى ذهاب ريحها، وما ينسحب على الدول فإنه ينسحب على الأفراد والمؤسسات.
الخاتمة
إن التفسيرات العلمية الحديثة للقرآن الكريم لا تتصادم مع ما شرحه العلماء الأوائل ، بل إن التفسير الجديد لبيت العنكبوت هو مكمل للشرح السابق، فهناك شرح مادي، وآخر مجازي، وأرى أن لفظ (الوهن) يحتمل المعنى المجازي كما يحتمل المعنى المادي.
وهذا يوكد أن القرآن الكريم هو حق نطق به الله عزّوجل العليم الخبير، لا تغيير في نصوصه، فقد تكفل العلي القدير بحفظه لقوله: “ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ “سورة الحجر الآية 9. وما يقوم به العلماء قديماً وحديثاً هو التوسع والتعمق في شرح النصوص. وهذا يؤكد أيضاً على أن القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان، وأن التعمق في شرح الآيات الكريمة مستمر إلى يوم الدين، وأن اكتشاف الأسرار القرآنية تظهر من جيل إلى جيل وتؤكده الأجيال المتلاحقة، وأن كل جيل يبني على ما توصل وما شرحه الجيل الذي سبقه، فالكل يكمل الكل، ولكل مجتهد نصيب.
والحمد لله على نعمة الإسلام. و” الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ” سورة الكهف- الآية 1.
وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ –سورة الأحزاب-الآية4.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.