عِكرمة صبري

ليست “العولمة ” حديثة النشأة بل تمتد جذورها الى الاكتشافات الجغرافية للقارات: اميركا الشمالية وأميركا الجنوبية واستراليا.
اما بالنسبة لاكتشاف الاميركيتين(الشمالية والجنوبية) فكانت اول محاولة وقعت في اواخر القرن الخامس عشر للميلاد وبالتحديد عام 1492 م، حينما تمكن الرحالة كريستوفر كولومبس من الوصول الى شواطىء هذه البلاد ظنا من انه اكتشف بلادا لها علاقة ببلاد الهند فأطلق عليها الهند الشرقية، وفي منتصف القرن السادس عشر للميلاد قام الرحالة امريكو فسبوتشي برحلته البحرية المشهورة الى نفس البلاد، واثبت انها بلاد جديدة، ولا علاقة لها ببلاد الهند من الناحية الجغرافية، وعرفت فيما بعد باسم اميركا نسبة لهذا المكتشف، وتوافد عليها بعد ذلك الاوروبيون.
اما بالنسبة لقارة استراليا فقد تمّ اكتشافها عام 1605 م وتدفق الاوروبيون عليها
بأعداد كبيرة وابادوا شعبها الاصليين!! ونتيجة لهذه الاكتشافات تبلورت لدى الغرب فكرة (الاستعمار) للدول والشعوب الاخرى، ثم ظهرت الثورة الصناعية في اوروبا في القرن الثامن عشر والتي بدأت بغزل النسيج، وانطلق بها الغرب سريعا في جميع المجالات في النواحي التجارية والصناعية والعسكرية ، واقيمت الشركات الكبرى والعملاقة والتي تعتمد على الاساطيل البرية والبحرية، واصبح الشغل الشاغل لدى الغرب هو التفكير في كيفية تسويق الانتاج الضخم الناتج عن الثورة الصناعية، وترسخت لدى الغرب فكرة غزو القارات والاقطار الاخرى.
الصناعات التكنولوجية
تم تطور التصنيع وقفز نقلة نوعية ثانية اعتمد فيها على التكنولوجيا الحديثة والتقنيات المتطورة، وسهلت للغرب الانتقال والتحرك والاتصال برا وبحرا وجوا من قارة الى اخرى في وقت قصير. ثم تفكك الاتحاد السوفياتي ما بين 1989 – 1991 واختل التوازن الدولي وتفردت قوة واحدة لقيادة العالم التي تمثلت بالولايات المتحدة الاميركية والتي كانت تخطط لهذا الدور منذ الحرب العالمية الاولى، وتعزز هذا الدور في الحرب العالمية الثانية، حيثة حسمت اميركا هذه الحرب لصالحها عندما اسقطت القنبلتين النوويتين على مدينتين في اليابان: احداهما على مدينة هيروشيما، والاخرى على مدينة نجازاكي، وكان ذلك في شهر آب عام 1945 م، لذا مال عدد من المفكرين العالميين ان يطلقوا على العولمة اسما اخر هو “الامركة ” نسبة لأميركا.
مفهوم العولمة
تعني (العولمة ) في هذه الايام: سيطرة المركز على الاطراف في العالم، باعتبار ان هناك قطبا يمثل مركز العالم وهو اميركا، وان سائر الدول والاقطار في العالم تتبع هذا المركز وتخضع له، بمعنى آخر: ان العالم لا يتحرك الا بتحرك هذا المركز وهو اميركا، فالاطراف يخضعون لارادة وتعليمات المركز فهذه هي “الامركة ” بعينها، فالموضوع ليس موضوع تعاون وتبادل واحترام بين الدول، وانما هو اخضاع وسيطرة دولة كبرى على سائر دول العالم.
الفرق بين العلمنة والعلمانية والعولمة
العلمنة (بفتح حرف العين ) هي فصل الدين عن الحياة، ونفي الوجود خارج هذا العالم اي ان يعتمد كل شيء على المادة وانكار الروح والحياة الاخروية، اي انكار ما وراء الطبيعة، ويطلق على العلمنة: العلمانية (بفتح حرف العين ايضا). (العلمانية )بكسر حركة حرف العين: هي التي تهتم بالامور العلمية والموضوعية، ولا علاقة لها بالعلمنة.
العولمة: تعني الاحتواء والهيمنة والخضوع والسيطرة لدولة كبرى في جميع النواحي الاقتصادية والسياسية والعسكرية، هذا هو تفسير الغرب للعولمة، وبهذا المعنى فان العولمة تتعارض مع الاسلام بل ان لها مخاطر على الاسلام.
مخاطر العولمة
من الواضح ان (العولمة ) هي وليدة الاستعمار العالمي وهي نتاج الهيمنة والسيطرة، ويترتب على ذلك ان العالم اصبح محكوما بثقافة الغرب وافكاره وفلسفته، وبالثقافة الاميركية على وجه التحديد، كما ان العولمة تسعى الى الغاء سائر الثقافات لدى الأمم والشعوب الاخرى، وتعادي كلّ من يقول رأيا يخرج فيه عن دائرة العولمة التي تحاصر العقل والفكر، وهذا ما حصل مع الفيلسوف المسلم روجي جارودي الفرنسي، وعليه فان
العولمة تستهدف الاسلام، عقيدة ونظام حياة، ومن هنا تكمن الخطورة في انتشار العولمة وسيطرتها على العالم. وبالتالي فإن المسلمين هم اكثر الامم والشعوب تضرراً بهذه العولمة لان الاسلام له شخصيته المميزة وله معتقداته وافكاره وثقافته وعاداته وتقاليده الخاصة به، وهكذا فإن كل امة في العالم لها خصوصياتها، فالاسلام لا يجيز التبعية للغير كما لا يجيز تذويب الامة الاسلامية في بوتقة امة اخرى لان هذا يعني، وبكل بساطة، التخلي عن العقيدة وتعطيل الاحكام الشرعية، واسقاط الاخلاق الرفيعة وتفكيك الاسرة المسلمة، فعلى المسلمين ان يكونوا حذرين ومتيقظين من مخاطر العولمة، والله سبحانه وتعالى يقول “ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً “. سورة النساء الاية 141 ، ولكن هذا لا يعني ان تتقوقع الامة الاسلامية على نفسها وانما تتعاون وتتفاعل مع الامم والشعوب الاخرى فيما له علاقة بخدمة البشرية وصالحها.

حتى يتحاشى المسلمون في هذا العصر، مخاطر العولمة لابد من تحصين انفسنا لمجابهة العولمة، وذلك من خلال النقاط الاتية:
-بناء الانسان عقيدة وسلوكاً بحيث يكون الانسان محصناً ولديه المناعة من التأثر بالعولمة وعدم الانسياق وراءها.
-التمسك بهويتنا الدينية والثقافية بحيث تشكل الهوية المميزة اساساً متيقناً في المحافظة على الذات وحمايتها من مخاطر العولمة.
-توظيف التقنيات والتكنولوجيا العصرية مثل: القنوات الفضائية وشبكة الانترنت والمعلومات والكمبيوتر واستخدامها لنشر الثقافة الاسلامية في العالم كله، ولا غرابة في ذلك فإن رسالة الاسلام قد جاءت للبشرية جمعاء، والله سبحانه وتعالى يقول “يا ايها الناس، انا خلقناكم من ذكر وانثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، ان اكرمكم عند الله اتقاكم، ان الله عليم خبير “، سورة الحجرات الاية 13 .
-بلورة مشروع ثقافي اسلامي موحد يتناول قضايا العصر، والامور والمسائل المستجدة والتطورات العلمية بهدف بيان رأي الاسلام فيها من خلال «الاجتهاد » لان الاسلام دين الحياة وان الاجتهاد من مصادره التشريعية، وذلك بتنشيط المجامع الفقهية والبحوث الاسلامية القائمة في مكة المكرمة وجدة والقاهرة وغيرها من العواصم والمدن الاسلامية، واقترح ان يكون الاجتهاد جماعياً، وليس فردياً، وذلك لضمان دقة الرأي ولحسم اي خلاف متوقع، وكما هو معلوم ايضاً ان ديننا الاسلامي العظيم لديه القدرة في مواكبة الاحداث، وليس عاجزاً عن بيان رأيه في المستجدات. هذا وقد اثنى رسولنا الاكرم محمد صلى الله عليه وسلم على الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه حين قال: اجتهد رأيي، ولا آلو، اي لا اقصر في ان اجتهد.
-تحديث الخطاب الثقافي وذلك بابتكار أساليب لغوية ومبسطة ووسائل مساعدة تقنية حديثة ومتطورة لملاءمة روح العصر ولايصال المعلومة للناس مع الحفاظ على أصالة ومضمون الثقافة الاسلامية، والله سبحانه وتعالى يقول “ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن “، سورة النحل الاية 125 ، وقال رسولنا الاكرم محمد صلى الله عليه وسلم “امرت ان اخاطب الناس على قدر
عقولهم ” رواه الديلمي في مسنده (الفردوس )عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
-الاهتمام باللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم، وتثبيت هذه اللغة لتكون لغة الخطاب الرسمي والشعبي لكل المؤسسات العاملة في الوطن العربي بما في ذلك الجامعات والمعاهد والمدارس باعتبار ان اللغة العربية هي لغة الام، وهذا لا يتعارض مع دراسة لغات اخرى.
-ابراز كيان اقتصادي اسلامي متكامل يرتكز على منظومة نقدية واحدة تدخل سلة العملات الصعبة الاخرى، وان يشترك في هذا الكيان الدول العربية جميعها كخطوة اولى، ثم تشترك سائر الاقطار الاسلامية في هذا الكيان، كخطوة تالية، وذلك على غرار ما هو متبع لدى الاتحاد الاوروبي كحد ادنى.
هذه ابرز النقاط التي ينبغي تطبيقها على ارض الواقع لنستطيع المحافظة على هويتنا الاسلامية، ولنستطيع ايضاً حماية انفسنا من الانجراف في تيار العولمة الدكتاتوري التسلطي.
اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل، وارزقنا اليقين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.