حديث الجمعة الديني: النفس والروح في القرآن الكريم
23 سبتمبر، 2016ان الروح والنفس لفظان ورد ذكرهما في القرآن الكريم عدة مرات، وقد خاض علماء التوحيد والعقيدة والتفسير في شرحهما، فهل هما لفظ واحد ام ان كل لفظ له دلالة تختلف عن دلالة اللفظ الاخر؟ وما العلاقة بينهما؟ وهل توجد فوارق بينهما؟ هذا ومن الصعب وضع تعريف محدد لكل منهما، ولكن العلماء قد وضعوا وصفاً تقريبياً لكلمنهما حسب اجتهاداتهم.
الروح: اصلها ووصفها
كانت الروح ولات زال مجهولة لدى الانسان، وهي مثار جدل ونقاش بين الفلاسفة تارة، وبني علماء الاحياء والكيمياء والطب تارة اخرى، فالفلاسفة يهتمون بالامور الميتافيزيقية – اي ما بعد الطبيعة وما وراءها-وأما علماء الاحياء والكيمياء والطب فإنهم يهتمون بالتشريح وتركيب المواد وتحليلها الا انهم جميعاً لم يصلوا الى اي نتيجة ولن يصلوا لانهم لم يعتمدوا على القرآن الكريم، فقد اختصها الله عزوجل لنفسه ولن يطلعها على احد من خلقه حتى الانبياء والمرسلين فيقول سبحانه وتعالى ” وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا” سورة الاسراء- الاية 85 ولهذه الاية الكريمة سبب نزول مفاده ان اناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح، وكانت الروح مجهولة لدى اصحاب الديانات السابقة، فلم يكن لدى الرسول صلى الله عليه وسلم علم ولا معرفة بحقيقة الروح، فجاء الجواب في هذه الاية الكريمة قاطعاً واضحاً صريحاً ان الروح من امر الله العلي القدير، فالانسان يجهل حقيقة الروح ويجهل كنهها فمهما اوتي الانسان من العلم فإنه يكون قليلاً. ومع ذلك فقد حاول علماء التوحيد اعطاء وصف عام تقريبي للروح فقالوا: انها ذات مجردة عن المادة، وانها جسم نوراني علوه يغاير الجسم المادي ويسري فيه سريان الماء في العود الاخضر، وهو لا يقبل التحلل والانقسام، وهناك وصف تقريبي آخر: ان الروح هي الطاقة التي بثّها الله في خلق من كائنات حية على وجه الارض فتحركها وتجعلها تتكاثر وتجعل الخلايا تنقسم، وعندما تموت الخلية فإن هذه الطاقة المحركة تكون قد استنفذت. ويمكن ان نتخيل الروح على انها ذبذبات غير مرئية ولا يمكن قياسها ولا ادراكها بأي جهاز، ولكن يمكن ان نرى وندرك نتائج وجودها، فهذه الذبذبات الروحية هي التي تحرك الخلايا وتدفعها للانقسام والاستمرار في حياتها. فكل ما يعرفه العلماء عن الروح انها تحل في الجسم فتدب فيه الحياة ويظهر به الادراك والوعي والتفكير والعلم والارادة والاختيار، وانها حين تفارق الجسم يتحول الى مادة جامدة كسائر المواد، ويكون الجسم حينئذ عرضة للتحلل والاندثار.
هذا وسبق لعلماء الاحياء ان عرفوا تركيب الخلية الواحدة من خلال الفحص المخبري، ولكنهم لم يستطيعوا ان يدركوا «الحياة » في هذه الخلية، كما انهم لم يستطيعوا ان يوجدوا «الحياة » في خلية ميتة. فهذا هو الاعجاز من الله رب العالمين، وهذا هو التحدي الكبير للانسان، فاعترف العلماء بأن الحياة سر من اسرار الكون.
النفس: أصلها ووصفها
النفس هي الهالة التي تحيط بالجسم وتلتصق به ولا تغادره، وهي منوطة بأعمال الانسان واقواله بل بحركاته وسكناته، ويمكن القول ان التكاليف الشرعية العملية مرتبطة بالنفس، فإذا كانت النفس مهذبة وصالحة فإن ذلك ينعكس ايجاباً على الاخلاق والسلوك والتصرفات، واذا واصل الانسان جهاد نفسه فإنه يتغلب على الهوى ويرتفع عن النقائص ويبتعد عن الحسد والغيبة والنميمة والخصومات والاحقاد، والله سبحانه وتعالى يقول ” وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ” سورة الحجرات- الاية 7، فان القرآن الكريم يعد هذا الانسان من الراشدين كما يعده من الفالحين بقوله عزوجل: “” وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا سورة الشمس الايات 7- 10 .
فالانسان يكون فالحاً اذا زكى نفسه وطهرها بالاعمال الصالحة وبالاستقامة. وعكس ذلك يكون الانسان خائباً وهابطاً حين تكون نفسه خبيثة ودنيئة، وحين يرتفع الانسان الى المستوى الرفيع بالنفس فانها تكون قد اطمأنت بالحق وبالخير وتكون مهيأة لملاقاة الله رب العالمين. وعليه توصف النفس بالمطمئنة اي ترتفع النفس الى اسمى مراتب التهذيب والاخلاق فيقول عز وجل ” يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي” سورة الفجر الايات 27-30 واحيانا فان النفس توسوس للانسان وتحرضه على فعل السوء فيقول سبحانه وتعالى: ” إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ” سورة يوسف الاية 53.
العلاقة بين الروح والنفس
من العلماء من يعد الروح والنفس شيئا واحدا لان النفس ترد في النصوص الشرعية ويراد بها الروح، احيانا تطلق النفس ويراد بها الروح والجسد معا. واقول ان هذا الاطلاق من قبيل المجاز وليس الحقيقة. ونستطيع القول بأن الروح شيء والنفس شيء اخر، مع وجود علاقة وارتباط بينهما على النحو الاتي:
1. ان النفس تموت بقوله عز وجل «كل نفس ذائقة الموت » سورة ال عمران الاية 185 اما الروح فانها لا تموت لاننا لا ندرك كنهها وبالتالي فانها تصعد الى بارئها، اي ان الروح في عالم مجهول بالنسبة لنا.
2. ان النفس تموت مرتين: أ- مرة حين النوم فاذا نام الانسان قبض الله نفسه ولم يقبض روحه حيث ان النائم يتنفس، وقلبه ينبض. فالنفس يتوفاها الله عز وجل اثناء النوم اي يأخذها. ثم يعيدها حين الاستيقاظ اي تعود لتلتصق به لحظة الاستيقاظ، وتتم العملية الربانية بسرعة فائقة يمكن ان تكون اسرع من الضوء. وهذا مظهر به مظاهر الاعجاز.
ب – المرة الثانية: تموت النفس حين تفارق الروح الجسد، فيقول الله رب العالمين: “اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” سورة الزمر الاية 42 . والمراد (حين موتها) اي حين تفارق الروح الجسد.
3. يقول عز وجل على لسان سيدنا عيسى عليه السلام ” تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ” سورة المائدة الاية- 116 فلم يقل الله (روحي) بدلا من (نفسي) للدلالة على ان الروح غير النفس حيث ان النفس هي مدار التكليف والاعمال والاقوال.
4. يقول سبحانه وتعالى ” وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ” سورة الحجر الاية – ٢٩ ولم يقل (من نفسي) للدلالة على ان الروح غير النفس.
5. يقول رب العالمين « فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ » سورة فاطر الاية – 32 ولم يقل (لروحه). للدلالة ايضا على ان النفس غير الروح.
6. اذا استعرضنا الايات التي لها علاقة بالقتل نجد انها مرتبطة بالنفس، ولم تذكر اي اية لها علاقة بالروح فيقول سبحانه وتعالى ٠٠ ” وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ” سورة الانعام الاية – 15 وسورة الاسراء الاية 32 ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق وهناك خمسة عشر موضعا في القرآن الكريم يربط القتل بالنفس، ولا تذكر الروح في هذا المجال حيث ان الروح لا تعرف حقيقتها ولا كنهها فلا يقع عليها القتل وهذا يؤكد على ان الروح غير النفس.
من اقوال الصحابة والعلماء
هناك اقوال لعدد من الصحابة والعلماء والمفسرين تميز بين الروح والنفس، اشير
الى بعض هذه الاقوال:
1. روي عن الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما انه قال «لكل انسان نفسان: نفس العقل ال ذي به التمييز، ونفس الروح الذي به الحياة فاذا نام الانسان قبض الله تعالى نفسه ولم يقبض روحه. ولا تفارق الروح الجسد الا عند الموت بامر الله عز وجل.
2. قال ابن عبد البر في تفسير «التمهيد » في هذا المجال ان الله خلق آدم وجعل فيه نفسا وروحا.
3. قال الزجاج من علماء اللغة العربية لكل انسان نفسان: نفس التمييز التي تفارقه اذا نام فلا يعقل بها، والاخرى نفس الحياة فاذا زالت زالت معها النفس والنائم يتنفس.
الخاتمة
ان لكل من الروح والنفس موقعا ومهمة وبينهما تداخل فالانسان عبارة عن جسد مؤلف من خلايا مادية مكونة من ذرات، ولكن وجود الروح بين هذه الذرات يجعلها حية تعيش وتتحرك وتنمو وتتكاثر. وان النفس هي التي توجه هذا الجسد بما يحمله من روح ، وإن جاز لي أن أشير إلى تشبيه مادي لتوضيح العلاقة بين النفس والروح فأقول: إن السيارة قبل تشغيلها تمثل الجسد، وحين تشغيلها بالمحرك (الموتور) فهو بمثابة الروح، وإن استعمال المقود حين السياقة فإن السائق إما أن يقودها إلى بر الأمان، وإما أن يهوي بها إلى واد سحيق، فإن قيادة السيارة تمثل النفس، ومع ذلك فاننا لا نتصور وجودا للنفس اذا فارقت الروح الجسد، فالنفس مرتبطة بالروح فاذا خرجت الروح انتهت النفس واصبح الجسد مادة ميته.
اللهم فقّهنا في الدين وعلّمنا التأويل وارزقنا اليقين.
“والله يقول الحق وهو يهدي السبيل” سورة الأحزاب-الآية 4.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.