حديث الجمعة الديني: بين الأقوال والأفعال
23 سبتمبر، 2016ورد في القرآن الكريم حثّ على الأعمال الصالحة في أكثر من مائة موضع ، وان هذه الأعمال جاءت مقترنة بالايمان للدلالة على أن المؤمنين هم المؤهلون للقيام بالأعمال الصالحة فيقول سبحانه وتعالى: ” إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا .خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا “سورة الكهف الآيتان 107 و108. وإن المؤمن لا يكون مؤمناً بالأقوال فحسب، بل بقيامه بالأعمال الصالحة والتزامه بالأحكام الشرعية العملية. ويمكن القول إن الأصل في الأمور هي الأفعال سواء سبقتها أقوال أو لا؛ لأن الأفعال هي الترجمه العملية للأفكار، والأفكار دون تطبيق تبقى حبراً على ورق، والكلام دون فعل يتبخر في الهواء وتذروه الرياح.
ذم القرآن للقوالين
لذا ذمّ القرآن الكريم أولئك الذين يقولون ولا يفعلون فيقول سبحانه وتعالى:” يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” سورة الصف- الآيتان 2 و3.
فالآيةالكريمة توبخ اولئك الذين يقولون ولا يعملون، أو ينسبون لأنفسهم أعمالاً بطولية لم يقوموا بها فعلاً. والله سبحانه وتعالى يمقت هذا الموقف، والمقت هو أشد درجات البغض والكره، للدلالة على عظم الجرم وفظاعة الإثم لمن يقول ولا يفعل، بالإضافة إلى أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- ذمّ الذين يكثرون من الكلام دون سبب لأن كثير الكلام قليل الفعال- عادة- وأنّه يريد بكثرة كلامه تغطية تقصيره في أداء واجباته فيقول –صلى الله عليه وسلم- من حديث شريف مطول: “..وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مساويكم أخلاقاً الثرثارون المتشدّقون المتفيهقون”- رواه البيهقي في (شعب الايمان) عن الصحابي الجليل أبي ثعلبة الخشني –رضي الله عنه- والثرثارون: المكثرون في الكلام. المتشدقون: المتوسعون في الكلام. المتفيهقون: الذين يملأون أفواههم بالكلام تكبراً وعجرفة. وما من شك أن هذا الصنف من الناس لا يعملون الخير ولا يحثّون عليه. وانما ابتلوا بكثرة الكلام والتوسع فيه دون مبرر، والادعاء الفارغ من خلال كلامهم بأنهم يعملون وهم بعيدون عن العمل، وأنهم بتكبّرهم يتوهمون أنهم قادرون على إقناع الناس بأهميتهم، وهؤلاء مساكين حقاً! لانهم يدركون أنهم مكشوفون لدى جميع الناس من متعلمين وغير متعلمين!!.
نماذج حية من التاريخ المشرق
أتناول ثلاثة نماذج حية من تاريخنا الحضاري المشرق الذي ينطق بالأفعال ، لا بالأقوال:
1- عام المجاعة (عام الرمادة) 18ه/640م.
حصلت مجاعة في عهد الخليفة العادل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه- فأرسل إلى ولاته في مصر والشام والعراق برسائل يأمرهم فيها بالنجدة والغوث والمدد لمجابهة المجاعة بسبب الجفاف والقحط في الجزيرة العربية، وكان التنفيذ فورياً والتعاون سريعاً بعيداً عن الروتين والتعقيد الاداري. وكان أول الملبين الصحابي الجليل عمرو بن العاص والي مصر –رضي الله عنه- الذي أرسل رسالة جوابية إلى أمير المؤمنين يشعره فيها بالسمع والطاعة، وأنه أرسل مدداً أوله في الجزيرة العربية وآخره في مصر- كناية عن العدد الكبير للقوافل المحملة بالأغذية- فالأمر لا يحتاج إلى تشكيل لجان وإلى اجتماعات قاتلة للوقت.
2- موقف هارون الرشيد من ملك الروم.
أرسل نكفور ملك الروم –وقتئذ- رسالة إلى هارون الرشيد تضمنت نقض العهود والشروط التي كانت ملكة الروم ملتزمة بها، فأجابه هارون الرشيد برسالة مختصرة : “من هارون أمير المؤمنين إلى مكفور كلب الروم، قد قرأت كتابك، والجواب ما تراه دون ما تسمعه” فلم يلجأ هارون الرشيد إلى الاحتجاجات والاستنكارات، لأنه لا يلجأ إليها إلا الضعيف المستكين المستسلم، وانما لقنه درساً عملياً بأن أرسل له عام 186ه/802م جيشاً يؤدبه ويملي عليه الشروط السابقة، وقد رضخ ملك الروم للشروط لأن الأمر جد لا هزل، وكما يقول المثل السائر: لا تعاند من إذا قال فعل.
3- موقف المعتصم من ملك الروم
هاجم توفيل ملك الروم، بلدة زبطرة مسقط رأس الخليفة العباسي المعتصم ، وقتل عدداً كبيراً من النساء والأطفال . فاستنجدت امرأة بالمعتصم بقولها: “وامعتصماه!!” فوصلت هذه الاستغاثة مسامع المعتصم، فأقسم أن يلبي النداء وأن يحرر بلدة زبطرة وأن يفتح مدينة عمورية- مسقط رأس ملك الروم- وما هي إلا مدة قصيرة حتى كان المعتصم منفذاً ما قاله، دون مماطلة ولا تسويف، وذلك عام 223ه/ 840م، وحينما عاد المعتصم إلى العاصمة (سامراء) استقبله الناس استقبالاً عظيماً، وألقى الشاعر أبو تمام قصيدته البائية المشهورة في مدحه للمعتصم، والتي مطلعها:
السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب.
الخاتمة
لقد بدأت المصائب والنكبات تتوالى على المسلمين حينما كثر الكلام وقل الفعال، وينطبق ذلك على الأفراد كما ينطبق على الجماعات والشعوب والدول الذين اكتفوا بالاحتجاجات والاستنكارات والتبجّحات والادعاءات، ونحن في وقت أحوج ما نكون فيه إلى التعاون وإلى العمل المثمر الجاد، وكذلك نحن بحاجة إلى الصمت وأن لا نتكلم إلا في الخير، وحين الحاجة إلى الكلام وذلك لنيل الرضا من الله عزّوجل ، وخدمة للبلاد والعباد.فيقول رسولنا الأكرم محمد –صلى الله عليه وسلم- : ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت “- رواه البخاري ومسلم وأحمد عن الصحابي الجليل أبي هريرة –رضي الله عنه-.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.