عِكرمة صبري

قال الله عزّ وجل:” إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ” سورة التوبة(براءة) –الآية 60.

المقدمة
إن مصارف الزكاة الثمانية قد وردت نصاً في القرآن الكريم، وانحصرت الزكاة بهذه المصارف، وهي(الفقراء، المساكين، العاملين عليها، المؤلفة قلوبهم، في الرقاب، الغارمين، في سبيل الله، وابن السبيل) فلا يجوز التجاوز إلى غير هذه الأصناف، وعليه فلا مجال للاجتهاد في زيادة عدد هذه المصارف، وانما يمكن أن يقع الاجتهاد البياني في توضيح المراد من هذه المصارف، ومعرفة دلالاتها وشرحها من قبل الفقهاء وعلماء اللغة. ومن المعلوم أن الاجتهاد نوعان: اجتهاد قياسي استنباطي، واجتهاد بياني، فالمراد من الاجتهاد البياني هو تحليل للنص الشرعي والتوسع في فهمه.
سهم في سبيل الله
يحسن في هذا المجال أن أتناول صنفاً واحداً من هذه الأصناف الثمانية ألا وهو السهم”في سبيل الله” وذلك لكثرة الاستفسارات حوله، وأجيب بأن هناك رأيين اثنين في بيان المراد من لفظ “في سبيل الله” وهما:
1- الرأي الأول: رأي يحصره في إعداد المقاتلين للجهاد وتجهيز الجيوش وتسليحها وتقويتها وتموينها.
الرأي الآخر: رأي يتوسع في مدلول هذا اللفظ فيرى أن الجهاد كما يكون عسكرياً فإنه يكون فكرياً وثقافياً وتعليمياً ويكون بمقارعة الملحدين والمشككين وذلك عن طريق الحجج والبراهين لقوله سبحانه وتعالى ” ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ” سورة النحل –آية 125. فإن انشاء جمعيات تحتضن الشباب المسلم وتحميه من الإلحاد والانحلال والانحراف هو جهاد في سبيل الله، وان إقامة دور للأيتام وللفقراء والمساكين والمحتاجين لرعايتهم وحمايتهم من التيارات الغربية والغريبة ومن التبشير هو جهاد في سبيل الله، وان نشر كتب دينية تحسن عرض الأفكار الاسلامية من خلالها وتوضح المعالجات السليمة لواقعنا وتكشف زيف الأفكار الدخيلة هو جهاد في سبيل الله. وفي هذا الصدد يقول الزمخشري في تفسيره” الكشاف” مانصه “والتفقه في الدين هو الجهاد الأكبر لأن الجدال بالحجة أعظم أثراً من الجلاد بالسيف… تفسير الكشاف ج1 ص: 412، وذلك في سياق تفسيره لآية التفقه في الدين والتي نصها: “وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ”سورة التوبة(براءة) –الآية 122.
الدلالة العامة في لفظ “في سبيل الله”

من العلماء والفقهاء من توسّع أكثر وأكثر في مدلول لفظ “في سبيل الله” فيقولون: إن هذا اللفظ أشمل من لفظ “الجهاد” فإن له دلالة عامة يقصد بها كل أمر يعود على المسلمين عامة بالمصلحة والخير، وذلك لعدم وجود دليل شرعي يخصص المعنى العام. والمعلوم بداهة لدى علماء أصول الفقه بأن النص الشرعي يبقى على عمومه ما لم يرد دليل (أي نص شرعي) آخر يفيد التخصيص أو التقييد، بل هناك نصوص شرعية أخرى تؤكد أن لفظ (في سبيل الله) يفيد العموم وليس منحصراً في الجهاد، فالله سبحانه وتعالى يقول “مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”سورة البقرة- آية 261.فإن لفظ (في سبيل الله) في هذه الآية الكريمة يفيد مرضاة الله وطاعته وثوابه. ويقول عزّ وجل في آية كريمة أخرى ” وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ” سورة التوبة(براءة) –الآية 34. فإن لفظ (في سبيل الله) في هذه الآية الكريمة يفيد (الزكاة) لدى جمهور الفقهاء ، وورد في الحديث النبوي الشريف أن رجلاً قال: ” يا رسول الله، أريد أن أضع هذا الجمل في سبيل الله. فقال –صلى الله عليه وسلم-: “إحمل عليه حاجاً” رواه أبو داود عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
فإن لفظ “في سبيل الله” في هذا الحديث النبوي الشريف يفيد مساعدة الحجاج المنقطعين الذين لا يملكون الركوب، وذلك للدلالة على أن لفظ “في سبيل الله” ليس منحصراً في الجهاد فحسب. وهناك عدة روايات لهذا الحديث النبوي الشريف يقوي بعضها بعضاً.
ويفهم من هذه الأدلة الشرعية أن لفظ في سبيل الله يفيد المصلحة العامة والخير ، وأن السياق لكل نصّ يؤدي إلى المعنى المطلوب
صحابة وفقهاء وعلماء
يحسن في هذا المقام أن أذكر عدداً من الصحابة الكرام ومن الفقهاء الأجلاء الذين توسعوا في مدلول “في سبيل الله” وهم: أنس بن مالك وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس والحسن بن علي رضي الله عنهم.

وأفتى بذلك من الفقهاء : أحمد بن حنبل واسحق بن راهويه والزخشري في تفسيره (الكشاف)والفخر الرازي صاحب (التفسير الكبير) وابن كثير صاحب (التفسير العظيم) والشوكاني صاحب كتاب (نيل الأوطار) في فقه الحديث الشريف ، والكاساني صاحب ( كتاب بدائع الصنائع) في الفقه الحنفي، ومحمد بن الحسن الشيباني من فقهاء الحنفية، والقفال من فقهاء الشافعية، وجعفر الصادق صاحب مذهب الجعفرية من الشيعة الإمامية.
ومن العلماء المعاصرين الذين أصدروا فتاوى حول التوسع في مدلول “في سبيل الله” : أحمد مصطفى المراغري، ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، وعبد الوهاب خلاف، ومحمود شلتوت، وسيد قطب، والبهي الخولي، وأحمد الشرباصي، وعفيف عبد الفتاح طبارة، وعبد الكريم زيدان، ومحمد عبد المنعم النمر، ومحمد خليل هراس، ويوسف القرضاوي، وسيد سابق، وأبو بكر الجزائري، وفؤاد أحمد علي، ومصطفى السباعي، وأحمد مصطفى الزرقا، وعبد الله علوان، ومحمود أبو السعود، ومحمد عبد القادر أبو فارس، وحسن أيوب ، ومحمد جواد مغنية. هذا بالإضافة إلى مئات العلماء المفتين في الأقطار الإسلامية الذين قالوا بذلك، وبهذا أفتي.
الخاتمة
إن لفظ “في سبيل الله” الذي هو من مصارف الزكاة يشمل الجهاد كما يشمل المصالح العامة التي يبرز فيها معنى البر والخير كبناء المساجد وإقامة المستشفيات والعيادات الصحية ومعاهد العلم الشرعي ودور القرآن الكريم ودور الحديث الشريف ودعم الدعوة الإسلامية بمختلف صورها وأشكالها شريطة ألا يطغى ذلك على سائر مصارف الزكاة الأخرى ، وبهذا أفتي، وبالله التوفيق.
“والله يقول الحق وهو يهدي السبيل” سورة الأحزاب آية 4.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.