حديث الجمعة الديني : الفتوى والأمانة العلمية
23 سبتمبر، 2016معنى الفتوى لغة واصطلاحاً- الفتوى: اسم من الفتى، وهو الشاب القوي، والسخي الكريم. وجمع فتوى فتاوى (بفتح حرف الواو بعده ألف مقصورة). وفتاوي: (بكسر حرف الواو وبعده ياء مقصورة) والاسم: الفتوى والفتيا. والمصدر: إفتاء. وأن العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي: بأن الذي يقوم بمهمة الفتوى ينبغي عليه أن تكون له همة وقوة وتمكن في الشريعة الإسلامية لتحمل المسؤولية ولإصدار الأحكام الشرعية بغض النظر عن السن والعمر.
أما المعنى الاصطلاحي للفتوى فهناك عدة تعريفات لدى الفقهاء والأصوليين والعلماء تدور كلها حول نقطتين هما: البيان والإخبار، هذا وهناك تعريفات مقتضبة، وهناك تعريفات موسعة.
وأكتفي في هذا المقام تعريفاً واحداً للفتوى وهو إخبار غير ملزم بحكم الله تعالى عن دليل شرعي بعد السؤال في مسألة شرعية مشكلة، وإقامة الحجة على المكلفين بعد البيان. فإن الفتوى تكون غير ملزمة بخلاف الحكم الصادر عن القضاء فإنه ملزم للمتخاصمين.
وإن الفتوى تعبر عن حكم الله استناداً إلى دليل شرعي؛ لأن أي كلام لا يستند إلى دليل شرعي يكون اتباعاً للهوى وان الفتوى تتناول المسائل المشكلة (أي التي فيها اشكال وبحاجة إلى إيضاح وإزالة المبهم).
نشأة الفتوى
1- ان الله سبحانه وتعالى رب السماوات والارضين أول من أفتى للناس أي أن الله عزّوجل قد أسند الافتاء إلى نفسه وذلك لبيان أهمية الافتاء ومنزلته العظيمة، حيث يقول رب العالمين: ” وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ…. “-سورة النساء الآية 137. ففي هذه الآية الكريمة بأن الناس يطلبون الفتوى من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بحق النساء، فكان الجواب: إن الله عزّوجل ليتولى الإفتاء بحقّهن وهذا تكريم واضح من الله –سبحانه وتعالى- للنساء . وفي آية أخرى ” يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ…. “-سورة النساء- الآية 176. وهذه الآية الكريمة تتعلق بالميراث، والمراد بلفظ (الكلالة) في هذه الآية الكريمة: القرابة البعيدة من غير الفرائض في الميراث.
2- ثم إن الله عزّوجل قد طلب من رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم القيام بمهمة الافتاء لذا يُعدُّ -عليه الصلاة والسلام- أول مفتٍ في الاسلام، وأول من يوقع عن الله رب العالمين، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في عدة مواضع منها قوله سبحانه وتعالى: ” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ “.سورة البقرة -الآية 189 و(الأهلة) جمع هلال وهو ما يطلق على القمر حينما يهلّ في بداية الشهر العربي والمراد (بمواقيت للناس) أي أن الناس توقت مواعيدهم وأعمالهم وتعاملاتهم ومصالحهم بالاعتماد على الهلال وحركة القمر ودورانه ،كما أن الأهلة هي مواقيت لمناسك الحج. مع الإشارة إلى أن لفظ الفتوى ومشتقاته قد ورد في القرآن الكريم أحد عشر موضعاً.
3- ثم تولى الصحابة الكرام – رضي الله عنهم- مهمة الإفتاء، هذه المهمة الجليلة العظيمة الخطيرة نيابة عن رب العالمين، حيث برز من هؤلاء الصحابة : أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين أم سلمة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص، وزيد بن ثابت. وأبو هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهم كثيرون رضي الله عنهم أجمعين .
منزلة الإفتاء وفضله وأهميته
1- ويقول ابن قيم الجوزية (751ه/ 1350م) صاحب كتاب (إعلام الموقعين عن رب العالمين) في بيان الافتاء وفضله ومنزلته ( ولما كان التبليغ عن الله سبحانه وتعالى يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية إلا لمن اتصف بالعلم والصدق فيكون عالماً بما يبلغ صادقاً فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله. ثم يقول ابن قيم الجوزية (… وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟ فحقيق بمن أُقيم في هذا المنصب أن يعدّ له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أُقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج في قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف هو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب؟) ثم يستطرد ابن قيم الجوزية في هذا المجال فيقول: (….وليعلم المفتي عن مَن ينوب في فتواه، ويوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله)- اقتباس من كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين ج1 ص:7- ص:9.
2- لقد حذر الإمام مالك بن أنس (179هـ /795م) من التسرع في اصدار الفتوى. كما حذر من التصدي للفتوى عن جهل وتشدق وعدم كفاءة فقد سئل الإمام مالك رحمه الله مرة عن مسألة من المسائل فقال: لا أدري. فقيل له: إنها مسألة خفيفة وسهلة. فغضب وقال: ليس في العلم خفيف، أما سمعت قول الله سبحانه وتعالى “إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا “. سورة المزمل الآية 5. وأقول: إن العلم كله ثقيل، ومن المؤلم ومن المحزن أن من الناس من لا يقدرون خطورة هذه المهمة فيتنطّعون في ذلك ويتجرأون على إصدار أحكام في الحلال والحرام دون معرفة ولا ادراك. ويقول رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المقام “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا”. – متفق عليه عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وورد عن عبد الله بن ابي جعفر مرسلاً في حديث نبوي شريف “أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار”، رواه الدارمي. ومن الماثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال “أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار”. مصنف عبد الرزاق.
3- موقف الإمام الماوردي: لقد سبق أن تناول الإمام الماوردي (450هـ / 1085م) في كتابه الأحكام السلطانية موضوع الفتوى والمفتين، فقال: “وأما جلوس العلماء والفقهاء في الجوامع والمساجد والتصدي للتدريس والفتيا فعلى كل واحد منهم زاجر من نفسه ألا يتصدى لما ليس له أهل فيضل به المستهدي ويزل به المسترشد. وقد جاء في الأمر بأن أجرأكم على الفتيا أجرؤكم على جهنم، وحذر علماء السلف من التسرع في إصدار الفتوى أو من التصدي للإفتاء عن جهل وعدم كفاءة- كتاب الأحكام السلطانية ص: 167.
فتوى زيارة القدس
لقد أثير موضوع زيارة القدس مؤخراً بين مؤيد ومعارض كل حسب وجهة نظره، ونحن نحترم وجهات النظر المتباينة، وكان ذلك من خلال مؤتمر( الطريق إلى القدس) الذي عقد في عمان/ الأردن في أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء (28 و29 و30/ 4/ 2014م) وعلى اثر ذلك تشكلت لجنة لصياغة الفتوى المناسبة للموضوع، وكنتُ من ضمن هذه اللجنة، ودار نقاش علمي أخوي حتى صدرت هذه الفتوى بصيغتها النهائية بطريقة توافقية وباحترام متبادل وذلك لمصلحة القدس والمقدسيين.
نص الفتوى
أولاً: يرى العلماء المشاركون في المؤتمر أنه لا حرج في زيارة المسجد الأقصى المبارك بالقدس للفئتين التاليتين:
1- للفلسطينيين أينما كانوا في فلسطين أو خارجها مهما كانت جنسياتهم.
2- للمسلمين من حملة جنسيات بلدان خارج العالم الإسلامي.
ثانياً: يجب أن تراعى الضوابط الآتية لهتين الفئتين:
1- ألا يترتب على ذلك تطبيع مع الاحتلال يترتب عليه ضرر بالقضية الفلسطينية.
2- أن تحقق الزيارة الدعم والعون للفلسطينيين والمقدسيين دون غيرهم.
3- أن يدخل الزائر ضمن الأفواج السياحية الفلسطينية أو الأردنية بعيداً عن برامج الاحتلال.
4- يفضل أن يكون مسار رحلة الأقصى ضمن رحلات العمرة والحج قدر الإمكان وبشكل جماعي مؤثر يحقق المصالح الشرعية المعتبرة ويدعم الاقتصاد الفلسطيني والمقدسي تحديداً ، وسياسياً بهدف حماية الأقصى والمقدسات.
تعليق وتوضيح
هذا هو نص الفتوى التي أعلن عنها يوم الأربعاء في 30/4/2014م ، ومن المؤسف أن الأخبار الصحفية لم تكن دقيقة ولم تراع الأمانة العلمية فأوهمت القارئ أو المشاهد أو السامع بأن الزيارة للقدس قد شرعت بشكل كامل. وللحقيقة بأن الفتوى حصرت الموضوع في شريحتين (فئتين من المسلمين).
وهاتان الشريحتان هما: الفلسطينيون، والمسلمون الذين يحملون جنسيات أجنبية لأن دولهم معترفة ب (إسرائيل) سلفاً وبالتالي فإن زيارة الألماني أو الفرنسي أو الايطالي على سبيل المثال لا تؤدي إلى التطبيع لأن دولهم معترفة باسرائيل دون قيد ولا شرط. وعليه فإن الفتوى الصادرة عن العلماء المشاركين في المؤتمر ليس لها صفة التطبيع، وهذا ما كنا ندعو له باستمرار لقناعتنا ان ذلك لا علاقة له بالتطبيع. وكنا نأمل من الجميع أن يطلع على الفتوى قبل أن يصدر حكمه عليها. ولولا هذه الفتوى التي خرجت بهذه الصيغة لفشل المؤتمر. وعليه فإن أردنا أن نعتبر ذلك انتصاراً فهو انتصار للجميع وليس انتصار فئة على اخرى، ولا تيار على آخر.
وأما ما تبقى من الأمور العالقة بشأن زيارة القدس فإنها ستحال إلى المجامع الفقهية المتخصصة لتبحث الموضوع بحثاً معمقاً للوصول إلى النتيجة المبتغاة لمصلحة القدس والمقدسيين إن شاء الله.
اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل وارزقنا اليقين
والحمد لله على نعمة الإسلام
“والله يقول الحق وهو يهدي السبيل” سورة الأحزاء آية 4.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.