حديث الجمعة الديني : المؤاخاة الإيمانية
22 سبتمبر، 2016المقدمة
لقد حرص ديننا الإسلامي العظيم على إقامة مجتمع متماسك مترابط يقوم على الإيمان الصادق وعلى تقوية الأخوة بين الناس لا لمصلحة دنيوية ولا لمطمع شخصي وإنما لنيل الرضا والثواب من الله عزوجل فإن المسلم يتآخى مع أخيه المسلم من أجل تحقيق قيمة روحية رفيعة وليست دنيوية مؤقتة ” إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ” سورة الإنسان (الدهر) الآية 9.
آيات كريمة في المؤاخاة
هناك العشرات من الآيات الكريمة التي تحث على المؤاخاة بين الناس وعلى إشاعة المحبة فيما بينهم وتأليف قلوبهم، اذكر عدداً منها (مراعياً التسلسل القرآني):
1. يقول سبحانه وتعالى في سورة آل عمران ” وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ” الآية 103. فالله عز وجل ألف بين قلوب الناس على الإيمان والاعتصام بحبل الله، لأن القلوب هي مكمن الإيمان، ونتيجة لذلك أصبح المؤمنون بفضل الله وكرمه إخواناً، وهذا دليل على أن الأخوة الثابتة الصادقة تكون قائمة على الإيمان.
2. يقول عز وجل في سورة الأنفال: “وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ .وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” الآيات 62 و 63 و64.
3. يقول عز وجل في السورة نفسها في الثناء على المهاجرين والأنصار ” وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ . وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ “. الآيتان 74و75.
4. يقول العلي القدير في سورة الحجرات ” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ” الآية 10.
5. يقول رب العالمين في الثناء على المهاجرين والأنصار أيضاً في سورة الحشر ” لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ” الآيتان 8و9 فهذه الآيات الكريمة توضح وتركز على أن الأخوة قائمة على الإيمان، وهي أقوى الروابط.
أحاديث نبوية في المؤاخاة
هناك العشرات من الأحاديث النبوية الشريفة التي تحث على المؤاخاة، اذكر عدداً منها:
يقول رسولنا الأكرم :
1. “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ثم شبك بين أصابعه” متفق عليه عن الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-.
2. “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” متفق عليه عن الصحابي الجليل أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
3. “ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” متفق عليه عن الصحابي الجليل النعمان بن بشير -رضي الله عنهما-.
4. “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته. ومن فرج عن مسلم كربه فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة” متفق عليه عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-.
5. “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات يحسب أمرئ من الشر ان يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه” رواه مسلم عن الصحابي الجليل أبي هريرة -رضي الله عنه-.
نماذج تطبيقية في المؤاخاة
لم تكن المؤاخاة في التاريخ الحضاري للأمة الإسلامية شعارات براقة ولا وعود خادعة، وإنما كانت بمثابة تطبيقات عملية تجسد المؤاخاة الإيمانية على أرض الواقع، وأشير هنا إلى خمسة نماذج من هذه التطبيقات التي تزخر بها كتب الحضارة الإسلامية:
1. قدم ضيف على الرسول فلم يجد عند أهله شيئاً يقدم له، فاستضافه رجل من الأنصار يكنى بأبي طلحة الذي قال لامرأته: نزل في بيتنا ضيف رسول الله لا تدخريه شيئاً (أي قدمي له كل ما عندك). قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال لها: أطفئي السراج. وقدم أبو طلحة كل ما عنده إلى الضيف. وأوهم الضيف أنه يأكل معه وهو في الحقيقة لا يأكل لأن الزاد لا يكفي، فلما ذهب أبو طلحة إلى النبي في اليوم التالي قال له (عليه الصلاة والسلام): قد عجب الله عز وجل من صنيعكما. (أي من صنيع أبي طلحة وزوجه في كيفية إكرامها للضيف) فنزلت الآية الكريمة ” وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ” سورة الحشر الآية 9.
2. أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة. وكان فقير الحال، ولكنه أحس أن جاره أشد حاجة منه فأرسل إليه رأس الشاه فإذا بجاره يحس نفس الشعور تجاه جار ثالث فيرسل رأس الشاه إليه. وهكذا فكل جار يرسله إلى اقرب جار له. فتداولت رأس الشاه سبعة بيوت أي سبعة جيران حتى رجع رأس الشاه إلى الرجل الأول.
3. الأخوة الإيمانية التي اتصف بها الصحابي الجليل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه، وذلك حين نام في فراش الرسول ليلة الهجرة النبوية فضرب علي بن أبى طالب أروع نموذج للتضحية والفداء ويجود بنفسه للرسول عليه الصلاة والسلام. والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
4. المؤاخاة الفريدة التي تجلت بين المهاجرين من مكة المكرمة وبين الأنصار سكان المدينة المنورة حيث استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين في المدينة المنورة حين الهجرة النبوية فكان كل أنصاري ونزيله من المهاجرين أخوين في الله. امتثالاً لتوجيه الرسول حينما قال لهم (تآخا في الله أخوين أخوين) حيث قاسم الأنصاري كل ما يملك بينه وبين المهاجري الذي آخاه. وهذه الأخوة الإيمانية التي تفوق جميع الرباطات التي تربط الناس من علاقات نسب ومصاهرة وعصيبة واجتماعية.
5. في معركة اليرموك (التي وقعت 15هـ/636م) أتى ساقي الماء عدداً من الجرحى فكان أول من أتى الصحابة عكرمة بن أبي جهل ليسقيه فأشار إلى الصحابي سهل بن عمرو الذي أشار أيضاً إلى الساقي ليتوجه إلى جريح ثالث وهو الصحابي الحارث بن هشام فلما وصل الساقي إليه كان قد فارق الحياة وأسلم الروح إلى بارئها. وعندما عاد إلى الثاني وجده كذلك. ووصل إلى الأول فوجده أيضاً قد فارق الحياة، فكل منهم يؤثر الآخر على نفسه بشربة الماء فمر بهم الصحابي الجليل خالد بن الوليد سيف الله المسلول رضي الله عنه وتأثر لما شاهد وقال بنفسي أنتم. أي أنه كان يتمنى أن يكون بدلاً عنهم.
الخاتمة
هذه هي المؤاخاة في أسمى معانيها وصورها ونحن في وقت أحوج ما نكون فيه إلى إحياء هذه المؤاخاة فيما بيننا أينما وجدنا وحيثما ارتحلنا. وما من شك أنه كلما إزداد إيمان الشخص كلما سمت روحه وقويت محبته للآخرين.
فهل من مذكر؟ هل من مجيب؟
اللهمّ فقّهنا في الدين وعلّمنا التأويل وأرزقنا اليقين
” والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ” سورة الأحزاب- الآية4
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.