حديث الجمعة الديني : قدرة الله ونكران الإنسان
2 أكتوبر، 2016قال الله عزّ وجل: “قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ . مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ . مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ . ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ .ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ . ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ .كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ” سورة عبس –الآيات 17-23.
سبب نزول الآيات الكريمة
هذه الآيات الكريمة من سورة “عبس” وهي مكية ونزلت بحق المدعو / عتبة بن أبي لهب/ الذي سبق له أن أسلم ثم ارتد عن الإسلام، وذلك حينما نزلت سورة “النجم” قال: كفرت برب النجم!! وزعم أيضاً : آمنت بالقرآن كله إلا سورة النجم، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات الكريمة التي تتضمن اللعنة والعذاب على هذا الإنسان الضال المغرور وعلى أمثاله الذين كفروا بالله عزّوجل أو أنكروا أي شيء من القرآن الكريم.
تحذير من ربّ العالمين
لقد حذّر الله سبحانه وتعالى أولئك الذين يعترفون بأجزاء من القرآن الكريم وينكرون أجزاءً أخرى منه فيقول عزّوجل “أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ” سورة البقرة-آية 85. وأن الاستفهام الذي ورد في هذه الآية الكريمة هو استفهام انكاري ، وإن عقوبة المنكرين لبعض آيات القرآن الكريم تكون في الدنيا وفي الآخرة.
دعاء الرسول –صلى الله عليه وسلم- مستجاب
لقد ذكرت كتب التفسير والسيرة أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قد دعا على عتبة بن أبي لهب بقوله: “اللهم سلط عليه كلبك أسد الغافرة” والغافرة اسم موقع في الجزيرة العربية يقع على طريق الشام وتكثر فيه الوحوش الكاسرة، وبعد أيام قلائل خرج عتبة في تجارة إلى الشام، وسبق أن حذّره والده (أبو لهب) من الخروج تحسباً لاستجابة الله عزّوجل لدعاء رسوله!! فلما وصل عتبة إلى منطقة الغافرة تذكر دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام فوعد عتبة لمن معه في القافلة أن يعطيهم ألف دينار إن خرج سالماً من هذا الموقع، فجعلوه في وسط القافلة، ووضعوا المتاع حوله لحمايته والمحافظة عليه، فبينما هم سائرون في الطريق إذ أقبل الأسد على القافلة فلما دنا منهم وثب فإذا هو فوق عتبة فمزقه وقتله!! وهذه الحادثة من دلائل صدق النبوة، وان دعوته –عليه الصلاة والسلام- مستجابة دائماً ، وأن الله رب العالمين يكشف له أمور المستقبل “إن هو إلا وحي يوحى”سورة النجم – الآية 4.
“قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ”
لقد بدأت هذه الآية الكريمة بأشد صيغ الدعوات على الانسان الذي يُعرض عن الهداية ويستغني عن الايمان، فالله سبحانه وتعالى يوجه لعنته اليه ويوقع عذابه عليه وعلى امثاله، ويعجب الله عزّوجل من أمر هذا الانسان ومن كفره لانه يتنكر لمصدر وجوده وأصل نشأته، ولا يدرك عناية ربه به، ولا يقدر نعم الله الكثيرة عليه، فالانسان بهذا الوضع الشاذ يستحق اللعنة والعذاب والقتل لتصرفه العجيب الغريب. ومعنى (ما أكفره) ما أشد كفره وجحوده ونكرانه للأدلة العقلية والمادية التي تؤكد وجود الخالق وقدرته، وأن هذه الأدلة تقود الانسان إلى معرفة نفسه ليصبح متواضعاً، ويترك التكبر واالتمرد والغرور، وليتذكر اليوم الآخر ونهاية الانسان في الحياة، وبمعنى آخر: لا يجوز للإنسان، بعد أن يعرف حقيقة نفسه وبعد أن يلمس النعم الكثيرة التي أنعم الله عليه، أن يتكبر ويتعاظم ويعطي نفسه أكثر مما يستحق.
“مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ . مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ”
إن الاستفهام في هاتين الآيتين الكريمتين يفيد التقرير. أي للتقرير بأن الانسان قد خلق من أصل متواضع زهيد- إنه “النطفة” ثم أنشأ الله سبحانه وتعالى وجلّت قدرته الإنسان في أطوار وأحوال مختلفة: طوراً بعد طور، وحالاً بعد حال، وجعله خلقاً كريماً.
“ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ”
أي أن الله عزّوجل يسر الطريق للإنسان ، والتيسير لفظ عام في الدلالة، فيشمل: طريق خروج الجنين من بطن أمه، وان الله مهد له سبيل الحياة الدنيا، وسبيل الهداية، وسبيل المعاش والرزق، واختار طريق الخير أو الشر. وهكذا.
“ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ”
هذه نهاية الإنسان في الحياة الدنيا، فالله رب العالمين بيده نهاية الإنسان أي ينهي حياته حين يشاء وكيف يشاء، كما بيده عزّوجل بداية الإنسان، وأن الله سبحانه وتعالى جعل مستوى الإنسان حين الموت جوف الأرض يوارى فيها وذلك إكراماً له، بحيث لا يبقى على ظهر الأرض للجوارح والكواسر. ومعنى (أقبره) أي جعل له قبراً يوارى فيه.
“ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ”
أي أن الإنسان لا يترك سدى ولا هملاً، فإنْ لم يحاسب الإنسان في الحياة الدنيا فإنه سيبعث حتماً بعد الموت للحساب والجزاء متى شاء ربّ العالمين ” يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” سورة الشعراء الآيتان 88 و 89.
“كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ”
تستعمل الأداة “كلا” للزجر وللردع، وذلك بسبب تكبر الإنسان وغرورة وغطرسته واعراضه عن أوامر الله عزّوجل ، وبالرغم من هذا التذكير والتقريع فإن الإنسان يبقى مقصراً في حقّ الله ربّ العالمين، فلم يؤدّ ما أمر الله به، ولم يلتزم أوامر الله ولم يجتنب نواهيه، ولم يتذكر أصله ونشأته، ولم يشكر خالقه وهاديه، ولم يتعظ بخاتمته، ولم يستعد ليوم الحساب والجزاء.
الخاتمة
إن الإنسان العاقل هو الذي يفكر في حقيقة نفسه بشكل مستمر، وهو الذي يتصف بالتواضع ، وهو الذي يذيب نزوة التكبر والغطرسة من نفسه، إن الإنسان العاقل هو الذي يفكر في قدرة الله عزّوجل لخلق الإنسان والكون والحياة حتى يدرك عظمة هذا الخالق الذي يستحق الحمد والشكر والعبادة والطاعة.
فهل من مدكر، وهل من متعظ؟
“والله يقول الحق وهو يهدي السبيل” سورة الأحزاب آية 4.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.