عِكرمة صبري

قال الله عز وجل “انا انزلناه في ليلة مباركة، انا كنا منذرين “سورة الدخان الاية 3. وقال سبحانه وتعالى: “انا انزلناه في ليلة القدر، وما ادراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من الف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل امر. سلام هي حتى مطلع الفجر ” سورة القدر الايات 1- 5.
تعريفها
ليلة القدر هي تلك الليلة الشريفة المباركة التي لها شأن واهمية كبيرة ولها فضل وافر وكثير، ذات القدر العظيم، نزل فيها القرآن الكريم دفعة واحدة من اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا فعظمت هذه الليلة بعظمة القرآن الكريم وبوركت ببركته.
وقتها
لم يرد تحديد وقت لهذه الليلة بالذات، فهناك احاديث نبوية شريفة تطلب منا ان نتحراها وان نتلمسها في شهر رمضان كله، واحاديث نبوية شريفة أخرى تشير الى العشر الاواخر من رمضان، واحاديث تخصصها بالوتر منها اي بالمفرد فتشمل “ليالي: احدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين “فهذا هو الراجح، والله تعالى اعلم، فقد ورد ان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الاواخر ما لا يجتهد في غيره، رواه مسلم عن ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وفي حديث نبوي شريف آخر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا دخل العشر شدّ مئزره واحيا ليله وايقظ اهله “. متفق عليه عن ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها ايضا، وفي حديث نبوي شريف ثالث “تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الاواخر من رمضان “. رواه البخاري عن ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها ايضا، وهناك احاديث نبوية شريفة تحصرها بليلة السابع والعشرين من رمضان، وهذا هو الشائع والمألوف بين الناس. اما الحكمة من عدم التحديد فانها تكمن في حثّ المسلم على الاجتهاد في طلبها واحياء اكبر عدد ممكن من ليالي رمضان بهدف موافقتها ومصادفتها فتكثر عبادة المسلم ويتضاعف ثوابه ويعظم اجره ويبقى على اتصال دائم بالله رب العالمين خالق السموات والارضين، كما انه لا مجال لتحديد ليلة القدر، لماذا؟ لان شهر رمضان المبارك يسير، كما هو معروف، حسب التوقيت الهجري القمري كسائر الشهور القمرية الاخرى، فيأتي احيانا في فصل الصيف، واحيانا اخرى يتقدم الى فصل الربيع ثم الشتاء ثم الخريف وهكذا يدور مع الزمان، فيتقدم في كل سنة 11 يوما او 12 يوما.
اهميتها وفضلها
لقد اقتضت حكمة الله تعالى ان يفضل بعض مخلوقاته على بعض، وان يفضل بعض الاماكن على بعض، وبعض الازمان على بعض وبعض الايام على بعض وبعض الليالي على بعض، وفضل مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف على سائر الاماكن، وفضل شهر رمضان والاشهر الحرم على سائر شهور السنة، وفضل يوم الجمعة ويوم عرفة على سائر ايام السنة، وفضل ليلة القدر على سائر ليالي السنة، وهكذا، فقد جعل الله عزوجل العبادة في ليلة القدر خير من العبادة في الف شهر، ليس فيها ليلة القدر اي عبارة عن ثلاث وثمانين سنة واربعة اشهر، وقد اشار القرآن الكريم الى ليلة القدر في سورتين، هي: سورة الدخان، وسورة القدر. وجاء تفضيل الله عزوجل لهذه الليلة حيث اختارها لنزول القرآن الكريم فيها من اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا، وقال عليه الصلاة والسلام بحق هذه الليلة “من قام ليلة القدر ايماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه “متفق عليه عن الصحابي الجليل “ابي هريرة رضي الله عنه، فالعبرة ليس بطول الاجيال والاعمار وانما العبرة بنوع الاعمال التي تقوم على النية الخالصة والعزيمة الصادقة.
علامات ليلة القدر
هل لهذه الليلة من علائم ودلائل؟ وهل تكون السماء صافية فيها؟ وهل يكون الطقس معتدلاً فيها؟ وهل تنشق السماء انشقاقاً مادياً محسوساً مرة في كل سنة؟ وهل ينتشر الشعاع في كل مكان؟ والجواب عن هذه الاسئلة: لا نستطيع الجزم بذلك كله لعدم وجود أدلة شرعية تنص على هذه الظواهر المحسوسة فيقول الامام الطبري في هذا المجال…فان هذه المظاهر غير لازمة فقد تحصل ليلة القدر ولا يُرى ولا يسمع اي من ذلك .” اما من حيث الثواب فلا خلاف لدى الفقهاء بأن الذي يحيي ليلة القدر له الثواب العظيم فقد كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يهتمون بها ويتحرونها، ولكن لا من اجل أن يظفروا فيها بالدعوة المستجابة كما يتصور معظم الناس، بل لينالوا الثواب العظيم وليفوزوا برضا الله عزوجل. والسؤال الذي يفرض نفسه: متى يحصل المسلم على الثواب المتمثل بالعفو والمغفرة لما تقدم من ذنبه؟ والجواب على ذلك: ان من يوافقها، اي اذا وقعت هذه الليلة وهو يحييها ويتعبد بها، فقد نال الثواب الموعود حتى ولو لم يظهر له شيء من العلائم المحسوسة فلا يتوقف الثواب على كشفها لان الظواهر مجهولة لدينا. فالله عزوجل يضع في ميزان حسنات المتعبد ثواب هذه الليلة من حيث لا يدري.

دعاء ليلة القدر
هناك دعاء مأثور في هذه الليلة فقد ثبت عن ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها انها قالت: قلت يا رسول الله، أرأيت ان علمت ايّ ليلة القدر ما اقول فيها؟ قال: قولي: اللهم انك عفو تحب العفو فاعف عني “. رواه احمد وابن ماجه والترمذي عن ام المؤمنين عائشة رضي الله عنها. فإن احياء هذه الليلة المباركة يكون بقصد العفو والمغفرة لا بقصد امر دنيوي، والمستحب ان يكثر المسلم من هذا الدعاء في جميع الاوقات، وفي شهر رمضان المبارك اكثر، وفي ليلة القدر اكثر واكثر، كما يجوز للمتعبد ان يدعو ايضاً بأي صيغة اخرى من الادعية المأثورة، وهي متعددة ومتنوعة.
الخاتمة
ان الانوار السماوية كثيرة وكثيرة. ولكن السؤال حول مدى الاستفادة منها: والجواب فإنه لا تتحقق الاستفادة منها الا اذا شعّ النور من القلوب البشرية لتتلاقى وتتلاحم مع الانوار السماوية. فعلينا ان نبحث قبل كل شيء على النور الذي يشع من قلوب المؤمنين الصادقين حتى تتصل بعد ذلك بالسماء. فنحن نريد المسلم المؤمن الصادق صاحب القلب النوراني الايماني الذي يتصل بنور السماء ليضيء الطريق المستقيم له ولمن حوله من عباد الله الصالحين.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.