حديث الجمعة الديني : مواقف من فتح مكة
23 سبتمبر، 2016قال عدد من المؤرخين المسلمين “ان الهجرة من مكة كانت ايذاناً بفتح مكة “. وهذا القول صائب ودقيق وموضوعي وواقعي حيث ان رسولنا الاكرم محمداً -صلى الله عليه وسلم- قد غادر مكة فسقط رأسه في الهجرة النبوية وهو متألم وحزين على فراقها فقال مخاطباً لها حين مغادرتها الى المدينة المنورة مهاجراً “ما اطيبك من بلد واحبك الي، ولولا ان قومي اخرجوني منك ما سكنت غيرك”- رواه الترمذي عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، وقال ايضاً في حديث نبوي شريف آخر “والله انك لخير ارض الله واحبّ ارض الله الى الله، ولولا اني اخرجت منك ما خرجته “- رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي عن الصحابي الجليل عبد الله بن عدي بن حمراء -رضي الله عنه-.
كما ان عدداً من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم- قد نظموا شعراً حنيناً الى مكة بعد ان هاجروا الى المدينة المنورة مكرهين. والمعلوم ان المسلمين منذ الهجرة النبوية وهم يخططون ويعدون وينازلون المشركين حتى تهيأت الاسباب وحانت ساعة الصفر بفتح مكة -الفتح الاعظم -، وذلك بعد ثماني سنوات فقط من الهجرة النبوية.
الانطلاق من المدينة المنورة
في الثامن من شهر رمضان المبارك للسنة الثامنة للهجرة/ 629م انطلق رسولنا الاكرم محمد -صلى الله عليه وسلم- بصحابته الكرام -رضي الله عنهم- من المدينة متوجهاً الى مكة المكرمة باسم الله ورعايته وعنايته، وذلك لان بني بكر حلفاء قريش المشركين قد نقضوا عهد الحديبية الذي تم عقده في السنة السادسة للهجرة/ 627 م واعتدوا على قبيلة خزاعة في مكة وهم حلفاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسارع عمرو بن سالم الخزاعي شيخ قبيلة خزاعة الى المدينة المنورة لطلب النصرة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نصرت يا عمرو بن سالم”.
هذا وقد احست قريش انها تورطت في هذه المشكلة لانها نقضت بنداً من بنود اتفاقية الحديبية وحاولت الاعتذار وتدارك الموقف الا ان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يستجب لوفد قريش الذي قدم الى المدينة المنورة لهذه الغاية، وبخاصة بعد ان تأكد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ان عدداً من رجال قريش قد شاركوا مع بني بكر في الاعتداء على قبيلة خزاعة.
الدخول الى مكة
في العشرين من شهر رمضان المبارك من السنة الثامنة للهجرة دخل رسولنا الاكرم محمد صلى الله عليه وسلم مكة آمناً مطمئناً وهو يتلو سورة الفتح التي فيها بشارة من الله عزوجل للمسلمين بأنهم سيدخلون مكة فاتحين بقوله سبحانه وتعالى “انا فتحنا لك فتحاً مبيناً… “- سورة الفتح الاية 1، فأصبحت مكة حينئذ توصف بالمكرمة فتقول: مكة المكرمة.
العفو عند المقدرة
تتجلى سماحة الاسلام العظيم حينما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لاهل مكة: “يا معشر قريش، ما تظنون اني فاعل بكم “، قالوا: أخ كريم وابن اخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام قولته المشهورة “اذهبوا فأنتم الطلقاء “- سيرة ابن هشام ج: 2 ص: 273 وتاريخ الطبري ج: 3ص: 60 . فلم ينتقم صاحب القلب الكريم -عليه الصلاة والسلام – من اولئك الذين وقفوا في وجه الدعوة الاسلامية مدة تزيد عن عشرين سنة ولم ينتقم لنفسه من الذين آذوه وآذوا اصحابه رضي الله عنهم فلم يهدم بيتاً ولم يصادر ارضاً فضرب بذلك اروع الامثلة في العفو عند المقدرة وفي التسامح والتصافي ونبذ الاحقاد والخصومات. وحرصاً من الرسول نبي الرحمة -عليه افضل الصلاة واتم التسليم – على حفظ الدعاء من ان تسفك، وخوفاً من الاحتكاك بالناس فقد فرض خطة (منع التجول ) في مكة المكرمة بقوله : “من دخل بيته فهو آمن ومن دخل الكعبة فهو آمن، ومن دخل بيت ابي سفيان فهو آمن” فالاسلام العظيم هو اول من شرع فكرة (منع التجول ) حين الطوارىء، وذلك لاعطاء الناس الامن والامان ولحمايتهم من اي عدوان ولم يفرض منع التجول لمعاقبة الناس عقوبات جماعية .
رحمة بمسلمي مكة المكرمة
هناك حكمة ربانية لدخول الجيش الاسلامي مكة المكرمة سلما دون قتال، وهذه الحكمة تكمن في حفظ دماء المسلمين المستضعفين الذين أسلموا سرا في مكة ولا تعلم بهم قريش، فكان الرجل يسلم ولا يشعر زوجته بذلك، واحيانا تسلم الزوجة ولا تشعر زوجها بذلك ، فلو حصل قتال بين الجيش الاسلامي القادم من المدينة المنورة وبين اهل مكة لتعرض المسلمون المستضعفون الى القتل دون علم المسلمين القادمين من المدينة المنورة وقد اشار القرآن الكريم الى ذلك بقوله. :” ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموها ان تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء، لو تزيلو لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا اليما “- سورة الفتح الاية 25، بالاضافة الى المحافظة على حرمة مكة المكرمة.
مكة دار السلام والاسلام
بعد ذلك توجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- الى الكعبة وكان فيها ثلاثمائة وستون صنما، وقد حطمها جميعها وهو يتلو قول الله عز وجل “وقل جاء الحق وزهق الباطل، ان الباطل كان زهوقا ” -سورة الاسراء الاية- 81 .
ثم صعد الصحابي الجليل بلال بن رباح فوق الكعبة حين رفع الاذان لاول مرة وبصوت مرتفع، ولقب بلال بمؤذن الرسول وهو نال الشرف ايضا بأن كان اول من رفع الأذان في المسجد الاقصى المبارك سنة 15 هـ/سنة 636م في عهد امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حينئذ اصبحت مكة المكرمة دارا للسلام وللاسلام، وتمت بيعة الرجال والنساء من اهل مكة على السمع والطاعة، وبقي اهل مكة في ديارهم وبيوتهم آمنين سالمين مطمئنين لم يصب ولم يلحق بهم اي أذى، فأطلق على فتح مكة بالفتح الاعظم وذلك للانجاز العظيم الذي تحقق بسلام وبدون خسائر وبدون اراقة دماء.
المهاجرون والسكن في مكة
لم يفتح الصحابية الكرام -رضي الله عنهم- مكة المكرمة من اجل ان يسكنوا فيها، وانما فتحت لاحقاق الحق وازهاق الباطل ولنشر نور الاسلام فيها وفي الجزيرة العربية ولتطهيرها من الاصنام والاوثان، والمعلوم ان المهاجرين والصحابة الكرام قد التزموا بثواب الهجرة لقول رسولنا الاكرم -محمد صلى الله عليه وسلم- : “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية “- متفق عليه عن الصحابي الجليل عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-، ولما روى الصحابي الجليل مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئت بأخي أبي معبد الى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد الفتح فقلت: يا رسول الله، بايعه على الهجرة، فقال عليه الصلاة والسلام: قد مضت الهجرة بأهلها، فقال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- “على الاسلام والجهاد والخير “- رواه مسلم، وورد ان صحابيا يدعى سعد بن خولة وهو من المهاجرين قد آثر السكن في مكة بعد الفتح ومات فيها، فرثى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لوضعه لأنه خسر ثواب الهجرة بقول من حديث مطول “…ولكن البائس سعد بن خولة يري له رسول الله ان مات بمكة “- رواه البخاري عن الصحابي الجليل سعد بن ابي وقاص -رضي الله عنه-، وتوصل الامام ابو عبيد القاسم بن سلام من هذه الاحاديث النبوية الشريفة ومن غيرها من النصوص الشرعية الى قوله : “كل من آمن وجاهد فهو لاحق بالمهاجرين في الفضيلة وان كان في بلده، وليس على الوجوب الهجرة الى دار المهاجرين “.- من كتاب الاموال لابي عبيد ص :279 وص: 280 .
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ان الحكم الشرعي بشأن انقطاع الهجرة يتعلق بالمهاجرين من الصحابة فقط ام يتعلق بالمسلمين عامة؟
والجواب عن هذا السؤال، والله اعلم، اقول: ان الحكم الشرعي هو عام ويبقى قائما على عمومه في كل زمان ومكان اي انه لا يجوز شرعا الهجرة من البلاد ما دام المسلمون قادرين على اداء شعائرهم الدينية في بلادهم، اما اذا احتل الكفار عاجزين عن اقامة اركان الدين او طردوا من بلادهم قسرا وجبرا حينئذ يجوز للمسلم ان يهاجر من بلده شريطة ان ينوي العودة الى بلاده، فقال الامام العيني في كتابه – عمدة القارىء في شرح صحيح البخاري ( ما نص) : ” لا تجوز مفارقة الاوطان الا اذا كانت الهجرة من اجل الجهاد في سبيل الله او بنية خالصة لله عز وجل كطلب العلم او السعي للرزق اوالفرار بالدين وبقصد العودة ” ج: 14 ص :80 .
الخاتمة
هذه بعض الاحداث والاحكام الفقهية المستفادة من فتح مكة العظيم، والتي يجب على المسلمين ان يأخذوا العبر والعظات والدروس منها، وبخاصة ونحن في هذا الشهر الفضيل المبارك، شهر الصيام شهر الرحمة والانتصارات.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.