عِكرمة صبري

قال الله عز وجل “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” سورة البقرة الآية 143، وتعرف هذه الآية الكريمة بآية الوسطية. وقال سبحانه وتعالى: ” كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله…” سورة آل عمران الآية 110، وتعرف هذه الآية الكريمة بآية الخيرية.

هل الوسطية والخيرية مستمران؟
وهنا يطرح سؤال: هل الوسطية والخيرية من صفات الأمة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عنهم فحسب أم أن ذلك يمكن تحقيقه في كل زمان ومكان؟ هل أن الوسطية والخيرية مستمران في الأمة الإسلامية؟ والجواب: إننا نجد الإجابة الشافية عن هذا التساؤل لدى علماء التفسير الأجلاء في شرحهم لهاتين الآيتين الكريمتين.
آية الوسطية
لدى مراجعة عدد من المعاجم اللغوية للوقوف على دلالة لفظ “الوسط” نرى أن وسط الشيء في اللغة: هو ما له طرفان متساويان في القدر وفي المسافة. وتعريف لغوي آخر: اسم المكان الذي تتساوى حوله المساحة من جميع الجوانب. وأرى أنه لا تناقض بين التعريفين.
والمعنى الاصطلاحي: الوسط هو العدل والخيار والأجود والأفضل والأثمن. ومنه قول الشاعر ابن الرومي في رثاء ابنه الأوسط:
اختار حمام الموت أوسط صبيتي فلله كيف اختار واسطة العقد
والمعرف أن أغلى ما في عقد الذهب والجواهر هو أوسطه، ويطلق على السفير أيضا لفظ الوسيط أو الوساطة إذا كان يصلح بين طرفين “انظر المعاجم: لسان العرب ومختار الصحاح والمصباح المنير في شرحها للفظ “الوسط” ومشتقاته ويحسن في هذا المجال أن أسوق عددا من شروح التفاسير لآية الوسطية، بتصرف وإيجاز:
1- أورد الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية قوله ” إنكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم الأخرى لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسط، هنا الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً ودارا أي خيرها، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه أي أشرفهم نسبا، ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج كتاب (تفسير القرآن العظيم للإمام إسماعيل بن كثير ج1 ص190.)
2- ذكر الإمام البيضاوي في تفسيره “كما جعلناهم مهديين الى الصراط المستقيم جعلناهم أمة وسطا أي خيارا وعدلا، والوسط “لغة” اسم المكان الذي تستري إليه المساحة من الجوانب ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي الافراط والتفريط كالجود يقع بين الإسراف والبخل، وإن الشجاعة تقع بين التهور والجبن (كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل “تفسير البيضاوي” للشيخ عبد الله الشيرازي البيضاوي ص29).
3- ان الإمام المراغي في تفسيره يعرف الوسط: العدل والخيار وأن الزيادة على ذلك إفراط، والنقص عن ذلك تفريط وتقصير وكلاهما “أي الإفراط والتفريط” مذموم، ويستطرد الإمام المراغي قائلاً: لقد جعل الله المسلمين خيارا وعدولاً لأنهم وسط فليسوا من أربا الغلو في الدين المفرطين فيه، ولا من أرباب التعطيل المفرطين.

ويكمل الإمام المراغي تفسير هذه الآية بقوله “أي لتشهدوا على الماديين الذين فرطوا في جنب الله واخلدوا الى اللذات وحرموا أنفسهم من المزايا الروحية، وقال الله عز وجل على لسانهم “وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر” سورة الجاثية الآية 24، ولتشهدوا أيضا على من غلا في الدين وتخلى عن جميع اللذات الجسمية وهضم حقوق نفسه، لتشهدوا على هؤلاء وهؤلاء ولتكونوا سباقين للأمم جميعا باعتدالكم وتوسطكم في جميع شؤونكم، وذلك هو الكمال الإنساني الذي يعطي كل ذي حق حقه، فيؤدي حقوق ربه وحقوق نفسه وحقوق جسمه وحقوق ذي القرى وحقوق الناس جميعاً، ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم شهيدا” إذ الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى المرتبة الوسط، فنحن إنما نستحق هذا الوصف إذا اتبعنا سيرته وطريقته (كتاب تفسير المراغي للشيخ أحمد المراغي ج2 ص6 ص7).
وعليه فقد اكتفيت في هذه العجالة بما ورد في ثلاثة تفاسير للقرآن الكريم حيث إن التفاسير جميعها متطابقة في الشروحات.
آية الخيرية
لقد شرح علماء التفسير هذه الآية الكريمة بشكل مستفيض، وتكاد تكون شروحاتهم لها متطابقة أيضا، وأشير الى بعض هذه الشروحات بشيء من التصرف والإيجاز:
1. يقول الإمام ابن كثير في شرحه لآية الخيرية “حازت هذه الأمة قصب السبق الى الخيرات بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل عند الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يطعه نبي قبله ولا رسول، فمن اتصف من هذه الأمة بالصفات التي وردت في هذه الأمة بالصفات التي وردت في هذه الآية دخل معهم في الثناء عليهم، كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها قال: من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها. (كتاب تفسير القرآن العظيم للإمام إسماعيل بن كثير ج2 ص190) أن أن يلتزم بالشروط الثلاثة مجتمعة والتي وردت في هذه الآية الكريمة، وهذه الشروط هي: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله.
2. يقول الإمام البيضاوي في تفسيره “كنتم خير أمة”: دل على خيرتهم، ولا يعني أن الخيرية قد انقطعت فهذا من قبيل قوله تعالى “وكان الله غفورا رحيما” وغيرها من الآيات التي يرد فيها الفعل (كان) فإن الفعل (كان) في هذه الآية يدل على التأكيد بأن الأمر قد وقع وأنه مستمر فيما بعد إن شاء الله، ثم يشير البيضاوي الى أن الأمة تكون خير أمة أخرجت للناس بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر وإيمانها بكل ما أمر الله، وإنما ورد ذكر (الإيمان) متأخراً، وحقه أن يقدم، لأن القرآن قصد الدلالة على أنهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر إيمانا بالله وتصديقا به وإظهارا لدينه.
كتاب (أنوار التنزيل وأسرار التأويل “تفسير البيضاوي” للشيخ الشيرازي البيضاوي ص85).
3. يشرح الإمام المراغي في تفسيره لهذه الآية تعبيرين اثنين، هما (كنتم) بمعنى وجدتم وخلقتم، (أخرجت) أظهرت حتى تميزت وعرفت، ثم يفصل في الشرح فيقول (أنتم خير أمة في الوجود لأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون إيماناً صادقا يظهر أثره في نفوسكم فيزعكم عن الشر ويعرفكم الى الخير، بينما غيركم من الأمم قد غلب عليهم الشر والفساد فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن المنكر ولا يؤمنون إيمانا صحيحاً. وهذا الوصف، وصف الخيرية، يصدق على الذين خوطبوا به أولا، وهم: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم الذين كانوا بالمعروف وينهون عن المنكر، وملك الإيمان قلوبهم ومشاعرهم فكانوا مسخرين لأغراضه في جميع أحوالهم، أما عصرنا الحاضر فما زال الشر يزداد والأمر يتفاقم حتى سلبت هذه الأمة أفضل ما لها من مزية في دينها ودنياها بعد الإيمان وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويستطرد الشيخ أحمد المراغي في تفسيره بقوله: لا جرم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان موجبا فضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا ما قصده الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بقوله في تفسير هذه الآية أي تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقروا بما أنزل الله وتقاتلونهم عليه، (لا إله إلا الله) أعظم المعروف، والتكذيب بها أنكر المنكرات، فصفة (الخيرية) لا تثبت لهذه الأمة إلا إذا حافظت على هذه الأصول الثلاثة، فإذا تركتها لم تكن لها هذه المزية، ويلاحظ في هذه الأية أن الله سبحانه وتعالى قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات لأنهما سياج الإيمان وحفظاه فكان تقديمهما في الذكر موافقا للمعهود عند الناس في جعل سياج كل شيء مقدما عليه، (كتاب تفسير المراغي للشيخ أحمد المراغي ج4 ص 27- ص30) وأقول: إن القرآن قد أكد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يزيد عن عشر آيات، وذكرتهما السنة النبوية الشريفة ورغبت فيهما وذلك في عشرات الأحاديث النبوية، كما ذكر القرآن الكريم لفظ (الوعظ) ومشتقاته في أكثر من خمس عشرة آية وحثت عليه السنة النبوية المطهرة في عشرات الأحاديث النبوية الشريفة ورغبت فيه أيضاً الدلالة على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولبيان أهمية الوعظ في الإسلام. كيف لا والدعوة الى الله من أبرز مهام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غنى للأمة الإسلامية عنها في أي زمان ومكان، وفي أي حال من الأحوال.

الربط بين الآيتين
أن المتصفح لكتب التفسير فإنه يرى المفسرين للقرآن الكريم قديما وحديثا لم يخرجوا عن إطار الشروحات والتحليلات لهاتين الآيتين، ومما تجدر الإشارة إليه أن معظم علماء التفسير قد ربطوا بين هاتين الآيتين (آية الوسطية وآية الخيرية) من خلال شرح إحداهما بالأخرى من قبيل شرح النص بالنص، وإن مدلولاتهما متلازمتان، من هنا حرصنا على وصف أمتنا الكريمة بالوسطية والخيرية.

الخاتمة
هذا استعراض موجز للوسطية والخيرية للأمة سابقاً ولاحقا والى قيام الساعة، وذلك حين تلتزم الأمة الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله رب العالمين، وأن الله عز وجل قد أكرم الأمة الإسلامية بأن جعلها شاهدة على الأمم الأخرى يوم القيامة.
وان الأمة الإسلامية تتصف بالاعتدال، والبعد عن الإفراط والمبالغة والغلو والتشدد، وكذلك البعد عن التفريط والتهاون والإهمال والتقصير، حينئذ تستعيد الأمة الإسلامية كرامتها وعزتها وقوتها ووحدتها، بعون الله وتوفيقه وتسديده، وليس ذلك على الله بعزيز.
اللهم فقّهنا في الدين وعلّمنا التأويل وارزقنا اليقين.
“والله يقول الحق وهو يهدي السبيل” سورة الأحزاب-الآية 4.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.