حديث الجمعة الديني : الوقت أمانة
30 سبتمبر، 2016المقدمة : كثير من الناس يشعرون بالملل والضجر والضياع، ولا يعرفون كيف يستفيدون من وقتهم الذي هو أمانة في أعناقهم وسيسألهم الله عز وجل عن الأوقات التي أضاعوها. ومع الأسف فإنهم يلجأون إلى قتل هذا الوقت وضياعه كما يحلو لهم ويروق. ولا يدركون أن الوقت هو أمانة وأنه سريع الانقضاء والمرور، وانه يمر مرّ السحاب، وأن ما مضى منه لا يعوض ولا يعود.
ويقول أحد الشعراء:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
وإن الذين يقتلون الوقت إنهم يضيعونه في المقاهي والبارات، وفي لعب النرد والزهر وقي المجاملات، وفي الثرثرة والغيبة والنميمة والخوض في الأعراض ومراقبة الناس. وفي الفضولية والتدخل فيما لا يعني حتى في الخصوصيات. وهكذا دواليك من الأساليب الهابطة المتخلفة التي تقود إلى الآثام والأوزار وضياع الحسنات. إنهم أناس لاهون عبثيون منصرفون عن ذكر الله وعن الصلاة وعن الواجبات إنهم غير مكترثين بأولادهم فلا يلازمونهم ولا يجالسونهم. وما يدري هؤلاء المساكين أنهم يقتلون أنفسهم من خلال قتلهم وإضاعتهم للوقت إنهم لا يدركون بأن الإنسان عبارة عن مجموعة أيام كلما ذهب يوم بدون عمل ولا فائدة فإنه يخسر جزءاً من نفسه.
الإمام الحسن البصري والوقت
في هذا المجال يقول الإمام الحسن البصري بشأن الوقت (يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك). ولسلفنا الصالح أقوال أخرى تؤكد هذا المعنى، منها: من علامة المقت إضاعة الوقت. الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك. من كان يومه كأمسه فهو مغبون، ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون.
فهذه أقوال تحث على الاستفادة من الوقت. وعلى الإنسان أن يحرص أن يكون يومه أفضل من أمسه، وأن يكون غده أفضل من يومه، وهكذا للدلالة على الحيوية والنشاط والإبداع.
الاستفادة من الوقت وبيان أهميته
لقد حرص ديننا الإسلامي العظيم على الاستفادة من الوقت، وسخّر للإنسان الليل والنهار فيقول سبحانه وتعالى “وسخّر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه. وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها”. سورة إبراهيم الآيتان 33 و 34. ويقول عز وجل في آية أخرى “وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً” سورة الفرقان الآية 62. أي أن الله رب العالمين قد جعل الليل يخلف النهار، وجعل النهار يخلف الليل فمن فاته عمل في أحدهما فإنه يحاول أن يتداركه وأن يعوضه في الوقت الآخر. وللدلالة على أهمية الوقت أيضاً فقد أقسم الله عز وجل في مطلع عدة سور من القرآن الكريم بأجزاء معينة من الوقت مثل: الليل، النهار، الفجر، الضحى، العصر. ويقول علماء التفسير في هذا المجال: إذا أقسم الله سبحانه وتعالى بشيء من مخلوقاته فذلك ليلفت أنظار الناس إليه، ولينبههم إلى جليل منفعته والاستفادة منه، وكذلك لبيان قدرته جل وعلا، وعظمته في خلقه للكون والإنسان والحياة.
حث الرسول على الاستفادة من الوقت
لقد حث رسولنا الأكرم محمد على العمل النافع الجاد وعلى الاستفادة من الوقت إلى آخر لحظة في هذه الحياة الدنيا بقوله “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها “. رواه البخاري وأحمد والبزار والديلمي عن الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه.
والفسيلة: النخلة الصغيرة. وطلب منا (عليه الصلاة والسلام) أن نغتنم الفراغ من الوقت قبل الانشغال بشؤون الدنيا الفانية وفي ذلك عدة أحاديث نبوية شريفة بهدف الاستفادة من الفراغ للقيام بالعمل النافع والجاد، وبالعبادة المستمرة من تلاوة القرآن الكريم والتكبير والتهليل والتسبيح بحيث يكون لسان المرء رطباً بذكر الله عز وجل، فيقول “اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”.
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى والحاكم في المستدرك وأبو نعيم في حلية الأولياء وابن أبي شيبة في المصنف عن الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي: صحيح على شرطهما. ورواه الترمذي أيضاً مرسلاً عن التابعي عمرو بن ميمون الأودي، وهو من كبار التابعين بالكوفة.
ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث شريف آخر “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ “رواه البخاري عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. والمراد بالفراغ: الخلو من المشاغل والمعوقات الدنيوية، وذلك ليستفيد الشخص من هذا الفراغ بالعبادة وطلب العلم النافع وملازمة الكتب والإطلاع على النشرات المفيدة والبناءة. علماً أن الفراغ قد ينقلب إلى نقمة إذا أضاع الشخص هذا الفراغ باللهو ولعب الزهر والنرد ومشاهدة أفلام الجنس والبرامج الهابطة أو حضور مجالس الخمر أو مجالسة الذين يغتابون ويفسدون في الأرض، وغير ذلك من المحظورات والمحرمات.
سلفنا الصالح والوقت
لقد حرص سلفنا الصالح على الاستفادة من أوقاتهم فحصلوا علوماً نافعة، وحققوا انتصارات باهرة، ونفذوا إنجازات عظيمة، وأشادوا حضارة راسخة. ويقول الإمام البصري في هذا المجال: (أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم) هذا في فترة العصر الإسلامي الزاهر عصر التقدم والبناء وكانوا جديين في أعمالهم حتى درسوا الفلك والأنواء. فكيف بنا في هذه الأيام؟ إنه عصر التخلف والتقهقر والنفاق والرجوع إلى الوراء؟ كان أجدادنا وسلفنا الصالح يندمون على أي لحظة تمر دون فائدة فيقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه علمي) وقال الشاعر:
إذا مر بي يوم ولم اقتبس هدى ولم استفد علماً فما ذاك من عمري
نعم، إن الندم يكون على الوقت الذي لم يزد فيه الإنسان علماً ولا هدى ولم يشغله بالعمل المفيد. فينبغي على الإنسان أن يضع لنفسه برنامجاً يومياً لتعبئة وقته والاستفادة منه. لأن الوقت أمانة وأن الله رب العالمين سيسألنا عن هذا الوقت يوم القيامة يوم الحساب لقول رسولنا الأكرم “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه”. رواه البيهقي في شعب الإيمان عن الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه كما رواه الترمذي والطبراني والبزار من طرق أخرى.
المضيعون للأوقات
إنه لما يؤسف له ويدعو للألم والحزن والمراراة أن نجد أناساً في المجتمع لا يقدرون قيمة الوقت، بل يستهينون به ويضيعونه ويقتلونه، إنهم يتصفون بصفات سلبية غير حميدة، منها:
1- أولاً الغفلة: إن الغفلة عبارة عن مرض يصيب عقل الإنسان كما يصيب قلبه بحيث يفقد الإحساس بالمسؤولية فلا يشعر بما حوله ولا يتجاوب مع غيره ولا يتعظ بما حصل معه، وليس لديه الاستعداد للتغيير إلى الأفضل فهو بليد في أحاسيسه ومشاعره، وقد حذر القرآن الكريم من الغفلة أشد تحذير في عدة آيات كريمة، منها قول سبحانه وتعالى “واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخفية ودون الجهر من القول بالغدو والآصال، ولا تكن من الغافليين”. سورة الأعراف الآية 204 وقوله عز وجل “ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً”. سورة الكهف الآية28.
وقوله رب العالمين في آية ثالثة ” لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد” سورة ق الآية 22.
2- ثانياً التسويف والتأجيل: هي صفة سلبية مقيتة في الإنسان لأنه، أي الإنسان، لا يقوم ولا يلتزم بما يطلب منه مما يقوده إلى الكذب وخلف الوعد والنفاق والعداوة مع الآخرين. وهذه الظاهرة منتشرة بشكل بارز في المجتمعات المتخلفة والاتكالية والكسولة !! فالأعمال متراكمة والواجبات متوقفة، وحقوق العباد ضائعة، وحركة الحياة معطلة في حين أن رسولنا الأكرم قد حثنا على العمل واغتنام الفراغ وعدم التسويف والتأجيل حتى لا تضيع الفرص علينا، وذلك في عشرات الأحاديث النبوية الشريفة، منها قوله عليه الصلاة والسلام “اغتنم خمساً قبل خمس “وذكر منها” … وفراغك قبل شغلك..” أخرجه البيهقي في السنن الكبرى والحاكم في المستدرك وأبو نعيم في حلية الأولياء وابن أبي شيبة في المصنف عن الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي: صحيح على شرطهما. ورواه الترمذي أيضاً مرسلاً عن التابعي عمرو بن ميمون الأودي وهو من كبار التابعين بالكوفة.
ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث شريف آخر “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”. متفق عليه عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه. وفي رواية لمسلم” وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم” فالمسلم الصادق العاقل هو الذي يستفيد من وقت الفراغ بالعبادات والطاعات والمطالعات، وأن يلتزم بالمواعيد والعهود والمواثيق، وأن يبتعد عن المماطلات والتسويفات. ولا يجوز له شرعاً أن يقتل وقته بلعبة الشدة (النرد) وطاولة الزهر،أو في التطاول على عباد الله بلسانه بالغيبة والنميمة وقذف المحصنات الغافلات والتعرض للآخرين زوراً وبهتاناً، كما لا يجوز له شرعاً أن يضيع حقوق العباد والبلاد فقد روي أن أحد الأمراء دعا رجلا من الصالحين إلى طعام فاعتذر له بأنه صائم تطوعاً. فقال له الأمير: افطر اليوم، وصم غداً. فقال هذا الرجل: وهل تضمن لي أن أعيش إلى الغد؟ نعم هذا هو الموقف الإيماني الصادق فلا أحد يضمن لأحد أن يعيش إلى الغد، وعليه فلا يجوز للإنسان أن يؤجل عمل اليوم إلى الغد، فالموت يأتي بغتة وفجأة بلا استئذان، ورحم الله الشاعر حين قال من قصيدة مطولة:
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من سليم مات من غير علة وكم من سقيم عاش حين من الدهر
وكم من فتى يحيى ويصبح آمنا وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
3- سب الزمان: هذا أمر منهي عنه، ولا يصدر إلا حين يحس الإنسان بالفشل والإحباط والهزيمة والتهرب من المسؤولية وتحميل أخطائه إلى غيره وقد نهى رسولنا الأكرم عن سب الزمان والدهر بقوله “لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر” رواه مسلم عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه. أي أن الله رب العالمين هو الذي وضع سنن الحياة وناموس الطبيعة، وأنه عز وجل يسيّر الكون بنظام منسق، فلا يجوز لنا شرعاً أن نسب الدهر مجازاً، وقد أشار أحد الشعراء إلى عدم سب الزمان وعدم هجوه فإنه لا فائدة ترجى من سب الزمان، وإنما ينبغي أن نعيب أنفسنا وأن نحاسبها بهدف الإصلاح والتقويم فيقول:
نعيب زماننا والعيب فينا ومال لزماننا عيب سوانا
ونهجوا ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان بنا هجانا
وعليه فإن سب الزمان مردّه إلى ضعف الإيمان واهتزاز الشخصية والشعور بالهزيمة الداخلية الكامنة في الإنسان.
الخاتمة
يتوجب على الإنسان سواء كان موظفاً أو معلماً أو عاملاً أو تاجراً أو مزارعاً أو صانعاً أو طالباً أن يحافظ على وقته كما يحافظ على ماله، وأن يحرص على الاستفادة من الوقت كله فيما ينفعه في دينه ودنياه.
فالإنسان في عبادة شاملة مستمرة، وقد كان سلفنا الصالح، رضوان الله عليهم، أحرص ما يكونون على أوقاتهم لأنهم كانوا أعرف الناس بقيمها. فالوقت أمانة بل إن الوقت هو الحياة، فيقول عليه الصلاة والسلام “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما انفقه، وعن علمه ماذا عمل به. “رواه البيهقي في شعب الإيمان عن الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه. كما رواه الترمذي والطبراني والبزار من طرق اخرى.
اللهم فقّهنا في الدين وعلّمنا التأويل وارزقنا اليقين.
“والله يقول الحق وهو يهدي السبيل” سورة الأحزاب-الآية 4.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.