حديث الجمعة الديني : “التحكيم”ضوابطه ومجالاته-الحلقة الأولى
30 سبتمبر، 2016التمهيد
تعريف التحكيم لغة واصطلاحاً
1. تعريف التحكيم لغة: يقال في اللغة حكّم في الأمر تحكيماً، أي طلب منه اصدار حكم في الأمر، وحكمه في ماله تحكيماً اذا جعل اليه الحكم فيه، أي طلب منه أن يصدر حكماً فيه. وحكَّمتُ الرجل: فوّضتُ الحكم اليه. ومنْ اختاره الطرفان للتحاكم اليه يُدعى: حَكَماً بفتحتين، أو محكّماً: بتشديد الكاف المفتوحة، ويُطلق على كلّ منْ أَطراف النزاع: محتكِم- بكسر الكاف المخفضة، ومُحكِّم- بكسر الكاف المشددة، والحكم هو القضاء، وأصله المنع. يقال: حكمتُ عليه بكذا: اذا منعته من خلافه.[1]
2. تعريف التحكيم اصطلاحاً: هناك عدة تعريفات اصطلاحية للتحكيم وهي متقاربة في مضمونها، منها:
أ- هو تولية الخصمين حاكماً يحكم بينهما.
ب- هو تولية الخصمين المتنازعين حاكماً يحكم بينهما فيما تنازعا فيه، فيكون الحكم بين الخصمين كالقاضي في حق كافة الناس وفي حق غيرهما بمنزلة المصلح.
ت- هو عقد بين طرفين متنازعين يجعلان فيه برضاهما شخصاً آخر حكماً بينهما لفصل خصومتهما.[2].
وعلى العموم فإن حقيقة التحكيم هو أن يحتكم طرفان إلى طرف ثالث يختارانه برضاهما ليكون حاكماً بينهما في دعواهما بدلاً من القاضي.
ويمكن أن يكون المحكم شخصاً واحداً بمفرده يختاره الطرفان برضاهما، ويمكن أن يتولى التحكيم شخصان اثنان بحيث يختار كل طرف محكماً واحداً من طرفه. ويمكن أن يكون التحكيم عبارة عن ثلاثة أشخاص بحيث يختار كل طرف محكماً واحداً من طرفه، ويكون الثالث مميزاً أو مرجحاً تعينه المحكمة أو الجهة المختصة أو يختاره الطرفان برضاهما أيضاً، وتكون مهمة المميز منحصرة بترجيح أحد الرأيين في حال حصول خلاف بين المحكميْن. أما ان اتفق المحكمان على رأي أو حل واحد فلم يَعُد للمميز حاجة في ابداء رأيه، وبمعنى أوضح لا يحق له أن يبدي أيَّ رأي يغاير ما اتفق عليه الطرفان.
المحور الأول:
ما يجوز فيه التحكيم.
ان العلماء وأصحاب المذاهب الفقهية الاربعة يتفقون على مبدأ التحكيم، وانه يمثّل صورة من صور الصلح، وذلك لاتفاق المحتكمين على التحاكم والرضا بما يحكم به المحكم، وأن ما لا يجوز فيه الصلح من الأحكام لا يجوز الاحتكام بشأنها.
فالعلماء المسلمون متفقون على جواز التحكيم فيما يجوز فيه العفو والابراء، وما له علاقة باسقاط الحقوق والتنازل عنها من دعاوى الاموال المنقولة، ومن عقود المعاوضات، والمتعلقة بحقوق العباد الخالصة.[3]
المحور الثاني
ما لا يجوز التحكيم فيه
لقد اتفقت المذاهب الفقهية الاربعة ان حقوق الله الخالصة لا مجال للتحكيم فيها أي ما لا يملك الخصمان المتنازعات فعله بأنفسهما وحقوق الله الخالصة نوعان:
1. النوع الأول: ما وجبت فيه العقوبة حين تركه وعدم القيام به كالعبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج.
2. النوع الآخر: ما وجب فيه الحد لارتكاب فعل محظور كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر والحرابة.
فهذه كلها لا يجوز فيها التحكيم ولا الشفاعة فهي من حقوق الله الخالصة، ونستطيع القول إنما يختص الامام أو نائبه الحكم فيه من الاحكام لا يصح التحكيم فيه تمشياً مع السياسة الشرعية، فيقول رسولنا الأكرم محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم- مخاطباً الصحابي الجليل أسامة بن زيد رضي الله عنهما “أتشفع في حدّ من حدود الله؟ ثم قام واختطب ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه، واذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد!! وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”[4].
وكذلك بالنسبة للأمور المبنية على الاحتياط والاختصاص مثل: فرض الحجر على السفيه، أو رفع الولاية عن اليتيم حين وصوله سن الرشد، أو الحكم في اللعان، فهذه الأمور مما تناط بنظر الحاكم العام، ومن ثمَّ لا يجوز التحكيم فيها.[5]
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين.
________________________________________
[1]- لسان العرب لابن منظور، مادة (حكم)، والمصباح المنير لاحمد بن محمد المقري الفيومي، ج1، ص: 200، ومختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي، ص: 148، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير،ج1،ص: 419، وص: 420.
[2] – بدائع الصنائع للكاساني،ج7،ص: 3. والبحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم،ج7، ص: 24. ورد المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) ج5، ص: 427، ومعين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، للطرابلسي، ص: 112، والشرح الصغير للدردير، ج4، ص: 198، والمدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا،ج1، ص: 601
[3] – الهداية، شرح بداية المبتدي لبرهان الدين أبي الحسن علي الميرغناني، ج3، ص: 108. وشرح فتح القدير لكمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام الحنفي، ج5، ص: 500. والمبسوط لشمس الدين محمد السرخسي، ج16، ص: 111. والفتاوى الهندية على مذهب الامام الأعظم أبي حنيفة، والمسمى بالفتاوى العالمكيرية، ج3، ص: 397، والبحر الرائق، شرح كنز الدقائق، ج7، ص: 28. ومعين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من أحكام، لعلاء الدين أبي الحسن علي بن خليل الطرابلسي الحنفي، ص: 25. وحاشية المحتار على الدر المختار شرح تنوير الابصار (حاشية ابن عابدين) ج5، ص: 428- ص: 430. التاج والاكيل لمختصر خليل لابي عبد الله محمد بن يوسف الشهير بالمراق، ج6، ص: 112. وأحكام القرآن لابن العربي،ج2، ص: 619. والشرح الصغير للدردير، ج4، ص: 198، وحاشية الصاوي على الشرح الصغير، ج4، ص: 199. والمنتقى، شرح موطأ مالك للقاضي أبي الوليد الباجي الأندلسي، ج5، ص: 229. وأسهل المدارك شرح ارشاد السالك لابي بكر بن حسن الكشناوي،ج3، ص: 209. وتبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الاحكام للقاضي برهان الدين ابراهيم بن فرحون المالكي، ج1، ص: 55. وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير لشمس الدين محمد عرفة الدسوقي، ج4، ص: 136. ومغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لمحمد الخطيب الشربيني، ج4، ص: 379. وحاشيتا فليوبي وعميرة، ج4، ص: 298 وروضة الطالبين للامام النووي، ج11، ص: 131. والاقناع في حل الفاظ أبي شجاع، ج5، ص: 142. أدب القضاء لقاضي القضاة شهاب الدين أبي اسحق ابراهيم بن عبد الله المعروف بابن أبي الدم الحموي الشافعي، تحقيق الدكتور محمد مصطفى الزحيلي، ص: 140. وحاشية الشرواني وابن القاسم على تحفة المحتاج لشرح المنهاج، ج10، ص: 118. وأدب القاضي للماوردي، ج2، ص: 380. والمغني لابن قدامة، ج10، ص: 95. والفروع، ج4، ص: 440. ومطالب أولي النهي في شرح غاية المنتهى، ج6، ص: 471، والانصاف، ج11، ص: 197 و ص: 198. والفواكه العديدة في المسائل المفيدة، ج25،ص: 197.
[4] – متفق عليه عن الصحابية الجليلة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والحادثة مشهورة ومعلومة.
[5] – فتح القدير، ج5، ص: 500، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق، ج7، ص: 28. والمبسوط، ج16، ص: 111، ومعين الحكام ص:5 والفتاوى الهندية، ج3، ص: 316. أحكام العربي لابن العربي، ج2، ص: 619 شرح موطأ مالك، ج5، ص: 229، والتاج والأكيل، لمختصر خليل، ج6، ص: 112 . ومعنى المحتاج ،ج8، ص: 230، وأدب القضاء، لابن أبي الدم الحموي. وأدب القاضي للماوردي، ج2، ص: 380. والمغني، ج10، ص: 95. والتحكيم في الشريعة الاسلامية. مسعد عواد حمدان البرقاني الجهني، ص: 222