حديث الجمعة الديني : ” ضياع الحق وكتمانه”
1 سبتمبر، 2016من الأمور البدهية والمسلّم بها أن ديننا الإسلامي يشمل معالجات لجميع مناحي الحياة ومن هذه المناحي: الحياة القضائية فيطلب منا الإسلام أن نتحرى العدل -الذي قامت به السموات والأرض- في شؤون القضاء والمحاكم وأن نكون نصراء للحق محاربين للباطل وبخاصة في حقوق العباد والبلاد وفي قاعات المحاكم. الله سبحانه وتعالى يقول: “ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون” سورة البقرة، الآية 42، فهذه الآية الكريمة تتضمن النهي عن أمرين خطيرين هما:
• إلباس الباطل ثوب الحق وتعمّد الخلط بينهما.
• كتمان الحق.
وهذان الأمران فيهما قلب للحقائق ومضيعة للحق من أناس لا خلاق لهم باعوا دينهم بعرض من الدنيا محاولين الإيهام بأن الحق في جانبهم مع أن ما يتمسكون به أوهى من خيوط العنكبوت ويتبعون أساليب ميكيافيلية -الغاية تبرر الوسيلة- حتى إن صاحب الحق -في كثير من الأحيان- يظهر بمظهر الضعيف المرتبك ولا حجة له ولا دليل… فيضيع حقه ولا معين، وقد أشار الحديث الشريف إلى ذلك “ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض…” متفق عليه عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها. وما يصدق على الأفراد يصدق على الجماعات وعلى الشعوب والأمم والدول.
ومن مظاهر الخلط بين الحق والباطل: شهادة الزور التي تعتبر من أكبر الكبائر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم “ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً: الإشراك بالله، وعقوق الوالديْن، وشهادة الزور. ألا وشهادة الزور وقول الزور. وكان متّكئاً فجلس فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت…” أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن الصحابي الجليل أبي بكرة رضي الله عنه.
ولشهادة الزور مسميات متعددة، منها:
– اليمين الغموس، وسميت بذلك لأنها تغمس صاحبها بالإثم في الدنيا، وتغمسه في النار في الآخرة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم “الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالديْن، و اليمين الغموس” أخرجه البخاري والترمذي والنسائي عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
– اليمين الفاجرة، وسميت بذلك لأن هذه اليمين تصل إلى أشد درجات الإثم فهي تؤدي إلى خراب الديار لقول الرسول عليه الصلاة والسلام من حديث مطول “… واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع” أخرجه البيهقي عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه.
وليست لها كفارة لشدة إثمها فلو أن لها كفارة لما جعلت الأرض جرداء قاحلة وكذا لا توبة لحالفها إلا إذا سامحه من تضرّر بيمينه، ولكن كيف تتم المسامحة إذا كانت يمينه تتعلق بمصلحة البلاد، وحقوق العباد بشكل عام…؟! فلا توبة ولا مسامحة ولات ساعة مندم!! فيقول عليه الصلاة والسلام “خمس من الكبائر لا كفارة لهن: الإشراك بالله، والفرار من الزحف، وبهت المؤمن، وقتل المسلم بغير حق، والحلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرىء مسلم” أخرجه الإمام أحمد عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه.
والناس في هذه الأيام غارقون في إثم هذه اليمين بقصد أو بغير قصد، وبعلم أو بغير علم وذلك من خلال تصرفات يقومون بها، ومن هذه التصرفات -على سبيل المثال لا الحصر-:
1. أن يوقِّع شخص على عريضة قبل أن يقرأها أو يوقِّع على عريضة يعرف أن مضمونها مخالف للواقع بقصد إثارة الفتنة وتحقيق مآرب شخصية أو بدافع الخجل من أولئك القائمين على العريضة. ويمكن أن تعرض عليه -في اليوم التالي- عريضة أخرى مناقضة للأولى فيوقِّع عليها أيضاً.
2. أن يختم شخص أو مختار على معاملات رسمية دون أن يتحرّى دقة المعلومات، وأحياناً لا يقرأها.
3. أن يقوم بتغيير الوثائق والمعاملات الرسمية بأسلوب أو بآخر، وبالتواطؤ وبالرشاوى… وبخاصة في موضوع الأراضي بقصد تسريبها…!!
ولا يخفى ما يترتب على مثل هذه التصرفات من تضليل للقاضي بحيث لا يستطيع الوصول إلى الحقيقة وبالتالي لا يكون حكمه سليماً… ومن ضياع للحقوق وطمس لمعالم العدل ونزع الثقة بين الناس، ومن خراب للديار…!!
والذي يكتم الحق لا يقلُّ إثمه عن الذي يقلب الحق، فكلاهما يؤديان إلى ضياع الحقوق، وقد شدد الإسلام النكير على الذين يكتمون الحق، وحذَّر القرآن الكريم من كتمان الحق في أكثر من عشرين موضعاً لأن كتمانه إعانة لأهل الباطل وتأييد لهم.
ومن مظاهر كتمان الحق: موقف العلماء من السلطان حين ينافقون له ويمالئونه ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ويمتنعون عن المجاهرة بالحق ولا ينصحونه ولا يقوّمون اعوجاجه، والله سبحانه وتعالى يقول “إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ويشترون به ثمناً قليلاً، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار، ولا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم” سورة البقرة، الآية 174. ويقول أيضاً “اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله، إنهم ساء ما كانوا يعملون” سورة التوبة (براءة)، الآية 9. ويقول عليه الصلاة والسلام “من سئل عن علم فكتمه أُلْجِمَ يوم القيامة بلجام من نار” رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه. فديننا الإسلامي يسعى إلى حفظ الحقوق لأصحابها ويقطع دابر المستغلّين والمعتدين والمتاجرين بالدين، ويحرم ضياع الحقوق وكتمان الحق.
فإذا حفظنا حقوق بعضنا بعضاً كأفراد فإن الله سبحانه وتعالى يهيىء لنا ويوفقنا لأن يحفظ حقوقنا كشعب وأمة ودولة. وصدق الله العظيم حين قال “ولو أن أهل القرى آمنوا واتَّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض…” سورة الأعراف، الآية 95.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل وارزقنا اليقين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.