حديث الجمعة الديني : الإسلام ويوم التسامح العالمي
23 سبتمبر، 2016يحتفل العالم في السادس عشر من شهر تشرين ثاني ” نوفمبر ” من كل عام بيوم التسامح العالمي، وكأن هيئة الأمم تفخر وتتباهى بمثل هذه المناسبات الحضارية والإنسانية، ولكن أين التطبيق العملي لهذه المناسبات على أرض الواقع ؟!
إن العالم الثالث، والذي يعرف بالعالم النامي، مسحوق ومغلوب على أمره، ومحكوم بالحديد والنار، فهو محروم من الحرية والعدالة والكرامة والمسامحة، وغيرها من القيم الاجتماعية والحضارية والإنسانية، ويحسن بهذه المناسبة وفي هذه السياق، أن نلقي الضوء، ولو بإيجاز، على موقف الإسلام من موضوع التسامح، لأن الإسلام دين شامل لجميع مناحي الحياة، وصالح لكل زمان ومكان.
العفو عند المقدرة
يتوهم البعض بأن التسامح يأتي عن ضعف واستكانة واستسلام !!، وهذا توهم خاطئ غير واقعي ومغاير للحقيقة، فالتسامح ينطلق من القوة والمقدرة، وليس من الضعف، وكما هو معلوم ومعروف، أن العفو يكون عند المقدرة، والله -سبحانه وتعالى- يقول: ” فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ” سورة الحجر- الآية85، ويقول الله
-العلي القدير-: ” وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ” سورة الشورى- الآية40، ويقول الله -عزّوجل-: ” وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ” سورة الشورى- الآية43، ويقول الله – جلّ جلاله: ” وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ” سورة التغابن- الآية14.
وعليه، فإن الذي يعفو ويصفح يكون قوي العزيمة ضابط الأعصاب كاتم الغيظ، فيقول الله -تبارك وتعالى-في صفات المتقين: ” وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ” سورة آل عمران- الآية34، فالقرآن الكريم يشجع على العفو والصفح والمسامحة فيما بين الناس في عشرات الآيات الكريمة، ولا تخلو آية تنص على عقوبة من العقوبات من حث على العفو والصفح والمسامحة.
مواقف وأقوال حضارية
هناك عشرات المواقف الحضارية التي تدل على التسامح في الإسلام، وذلك من خلال الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة والأقوال المأثورة، التي تحث على العفو والصفح والرفق واللين والمسامحة، وتنفر من الغلظة والعنف، أشير إلى عدد منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- قال الله -سبحانه وتعالى- : ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ” سورة آل عمران- الآية159، وهذه الآية الكريمة توضح الأسلوب القويم للدعوة إلى الله وإن الخطاب في هذه الآية الكريمة موجه للرسول الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم – ويشمل جميع أتباعه.
2- قال الله -عزّوجل-موجهاً خطابه لموسى وهارون عليهما السلام: ” اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ” سورة طه – الآيتان 43 و 44، وقد قال أحد الصالحين تعقيباً على هاتين الآيتين: يا رب، إن كان هذا قولك لفرعون الذي طغى وبغى وجمع فأوعى وقال: أنا ربكم الأعلى !! فماذا نقول: لمن يسبحونك بالغداة والآصال ؟
3- العفو العام الذي أصدره رسولنا الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح الأعظم (فتح مكة في 8 هجرية الموافق 862 ميلادية) بحق أهل مكة فسامحهم رغم أنهم تآمروا عليه وآذوه مدة واحد وعشرين عاماً، قائلاً لهم: ” إذهبوا فأنتم الطلقاء “.
4- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ” من يحرم الرفق يحرم الخير كله ” رواه مسلم، عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.
5- قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: ” إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ” رواه مسلم، عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها.
6- قال الرسول الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم-: ” إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وبشروا ” رواه البخاري والنسائي، عن الصحابي الجليل أبي هريرة -رضي الله عنه-.
7- ثبت أن أحد المواطنين كان يفد إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-، وبعد مدة افتقده عمر فسأل عنه، فقالوا له: يا أمير المؤمنين إنه يتابع شرب الخمر، فكتب له رسالة قال فيها: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو، إليه المصير، ثم قال عمر لأصحابه: أدعوا الله لأخيكم أن يُقبل قلبه ويتوب الله عليه، فلما استلم الرجل الرسالة، أخذ يقرؤها ويردد عباراتها ويقول: قد حذرني الله عقوبته ووعدني أن يغفر لي، فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى، ثم نزع فأحسن النزع – أي تاب فأحسن التوب – لما علم عمر بتوبة الرجل قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاً لكم زلّ زلة فسددوه ووثقوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه وهذا أسلوب من أساليب الهداية والمسامحة، فلم يحاسبه على فعلته، بل أعطاه فرصة للتراجع والتوبة وفتح صفحة جديدة.
8- ورد عن الشريف الرضي أن غلامه قد سكب عليه الماء من قبيل الخطأ، فظهر على الشريف الرضي آثار الغضب وعدم الرضا، فاستدل الغلام ب الآية الكريمة: ” والكاظمين الغيظ ” سورة آل عمران- الآية134، فقال الشريف الرضي: كظمت غيظي، فقال الغلام: ” والعافين عن الناس “، فقال: عفوت عنك، ثم قال الغلام: ” والله يحب المحسنين “، فقال: اذهب، فأنت حر (أي أنه حرره من العبودية).
المبدأ العام للتعامل مع غير المسلمين
لقد وضع القرآن الكريم المبدأ العام للتعامل مع غير المسلمين، وذلك من خلال قول الله -عزّوجل-: ” لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ” سورة الممتحنة – الآيتان 8 و 9.
ويفهم من هاتين الآيتين الكريمتين أن غير المسلمين بشكل عام يقسمون إلى قسمين:
1. قسم مسالم، وهم المواطنون من غير المسلمين، أو المعاهدون.
2. قسم معاد، ويعرفون بالمحاربين.
والذي يعنينا هنا هو القسم الأول، حيث انفرد ديننا الإسلامي العظيم عن سائر الأديان والأنظمة والقوانين الوضعية بقدرته على ترسيخ مبدأ التعددية في المجتمع الإسلامي، والاعتراف بحقوقهم سلفاً، هذا وقد توالت وصايا رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم – بحق المواطنين غير المسلمين وأنهم في ذمة المسلمين لا يجوز الاعتداء على أرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم وأموالهم، ولهم حرية العبادة كل حسب معتقده، وتكررت أوامر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإحسان إليهم وحفظ حقوقهم والبر بهم، كما تكررت نواهيه عن إيذائهم وظلمهم والاعتداء على حرياتهم الدينية، فيقول رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: ” ألا من آذى معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة ” رواه أبو داود والبيهقي، عن صفوان ابن سليم عن عدد من ابناء الصحابة عن آبائهم -رضي الله عنهم- وإسناده جيد، ويقول الرسول الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم-: ” ألا من قتل نفساً معاهدة له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً ” رواه ابن ماجه والترمذي واللفظ له، وقال: حديثه حسن صحيح، عن الصحابي الجليل أبي هريرة -رضي الله عنه-، ومعنى (أخفر): نقض العهد، (يُرح) فعل مضارع مبني للمجهول والمعنى: أن الذي ينقض العهد لا يشم رائحة الجنة، وفي حديث نبوي شريف ثالث، قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: ” من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة ” أخرجه الخطيب البغدادي والسيوطي، عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- بسند حسن.
وأوصى رسولنا الأكرم محمد -صلى الله عليه وسلم- بأقباط مصر خيراً بقوله: ” إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً ” أخرجه أحمد، عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه-.
موقف الخلفاء والولاة من غير المسلمين
لقد التزم الخلفاء الراشدون وولاة الأمر والقادة الإسلاميون بالهدي النبوي، حيث عاملوا المواطنين من غير المسلمين معاملة حسنة، وأحاطوهم بالرعاية والعناية، كما تكفلت الدولة الإسلامية بالإنفاق عليهم وتأمينهم حين العجز والفقر والعوز، ويظهر ذلك واضحا ًجلياً بما كتبه القائد والصحابي الجليل خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في صلح الحيرة، حيث جاء في نص الصلح: ” وجعلت لهم أيما شيخ ضعيف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين وعياله، ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام “. (من كتاب الخراج لأبي يوسف ص:155 – 156). والمعلوم أن الجزية التي تؤخذ من المواطن غير المسلم تقابل الزكاة التي يدفعها المواطن المسلم، وكان ذلك في عهد الخليفة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً “، وفي رواية أخرى : ” بم استعبدتم “. (من كتاب سيرة عمر لأبي الفرج بن الجوزي ص:70 – 71)، وقال ذلك حين اعتدى ابن والي مصر عمرو بن العاص على الفتى القبطي، ثم قام أمير المؤمنين بمعاقبة المعتدي، فالحرية لكل إنسان في معتقده وفي حياته، لا إكراه ولا إجبار، وبلغ عمر بن الخطاب قمة السماحة والرأفة مع غير المسلمين، حيث أنفق عليهم من بيت المال، وأوصى بهم خيراً وهو على فراش الموت بقوله: ” أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا فوق طاقتهم “.- (من كتاب إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني ج: 5 / ص:162)، كما سار على هذا النهج الخلفاء الأمويون والعباسيون فقد ولّوا المواطنين من غير المسلمين عدداً من المناصب الإدارية والمالية، بالإضافة إلى حضور مجالس الثقافة والأدب والشعر التي كان الخلفاء يعقدونها للعلماء والأدباء والشعراء بما فيهم من المسيحيين واليهود بمختلف التخصصات، فعلى سبيل المثال لا الحصر: لقد أسندت الإدارة المالية إلى أسرة مسيحية في عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، وظلت هذه الأسرة تتوارث فيما بينها تلك الإدارة وهي أسرة سرجون بن منصور الرومي، كما برز الشاعر الأخطل في العصر الأموي. (من كتاب تاريخ خليفة بن خياط ج: 1 / ص:27)، وإن كتب الحضارة الإسلامية حافلة بمثل هذه النماذج.
الخاتمة
لقد حاولت أن ألقي الضوء وبإيجاز بشأن موقف الإسلام من (التسامح) مع المسلمين ومع غير المسلمين على حد سواء، وذلك لنؤكد بأن ديننا الإسلامي العظيم هو دين حضاري شمولي إنساني عالمي، وهو دين الرأفة والرحمة والتسامح، فلم يدخل الناس في دين الله أفواجاً إلا بالتطبيق العملي لهذه القيم، وعلى العلماء العاملين والدعاة المخلصين أن يبذلوا الجهد في سبيل إبراز هذه القيم إلى العالم أجمع.
اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل، وارزقنا اليقين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.