حديث الجمعة الديني : “القدس المحطة الأساسة”
15 سبتمبر، 2016يحتفي المسلمون في ارجاء المعمورة، وفي كل عام هجري، وفي السابع والعشرين من شهر رجب الفرد من كل عام، بذكرى عطرة، ذكرى عزيزة على قلوبنا.. انها ذكرى معجزة الاسراء والمعراج، هذه المعجزة التي ارتبطت ارتباطا مباشرا بمدينة القدس وابرزت اهميتها ورفعت من شأنها وقدرها، فكانت مدينة القدس المحور والمرتكز لهذه المعجزة، وهي أيضاً المحطة الأساسة فيها ، وارتبطت بمكة المكرمة كما ارتبطت بالسماء. اما نحن المسلمين فقد ارتبطنا بها ارتباطا وثيقا في مجالات متعددة ومتنوعة.
اشير الى ابرز هذه الارتباطات:
الارتباط الايماني العقدي
1- ان الارتباط الايماني العقدي يعد من اقوى الارتباطات الانسانية لانه قائم على العقيدة.. عقيدة التوحيد، ويتبلور ذلك من خلال النصوص الشرعية من الايات الكريمة والاحاديث النبوية الشريفة: قال الله سبحانه وتعالى” : سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من اياتنا، انه هو السميع البصير”. سورة الاسراء -الآية 1.
2- ان معجزة الاسراء والمعراج لا تتمثل في معجزة واحدة بل في عدة معجزات حيث يقول الله عز وجل. “لنريه من اياتنا”.. والآية هنا معجزة والايات جمع للمعجزات.
3- قال العلي القدير :”ونجيناه ولوطا الى الارض التي باركنا فيها للعالمين”. سورة الانبياء -الآية 71 ) نجيناه ( الضمير المتصل في هذا الفعل يعود الى سيدنا ابراهيم عليه السلام والارض هي فلسطين، والمعلوم ان المباركة مرتبطة بالايمان والعقيدة ايضا.
4- قال الله عز وجل : “يوم ينادي المنادي من مكان قريب” . سورة (ق)- الاية 41 تفيد هذه الاية الكريمة بأن احد الملائكة ينادي ليوم البعث من مكان قريب من الارض. والمكان القريب كما قال معظم المفسرين هو : صخرة بيت المقدس فهي اي صخرة بيت المقدس هي اقرب الارض الى السماء، وهي بوابة الارض الى السماء. وقيل ان الملك اسرافيل هو الذي ينفخ في الصور يوم البعث ، وان الملك جبريل هو الذي ينادي بالحشر. وكما هو معلوم بداهة ان يوم البعث والحشر من موضوعات العقيدة الاسلامية، كما ان الغيبيات من العقيدة الاسلامية.
5- ان مدينة القدس ستكون ارض المحشر والمنشر ففيها يجمع الناس وفيها يعرضون للحساب فقد ثبت ان الصحابية الجليلة ميمونة بنت سعد -رضي الله عنها- قالت : يا نبي الله، افتنا في بيت المقدس، فقال -صلى الله عليه وسلم- : “ارض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه” – رواه احمد وابو داود وابن ماجه وهذا يؤكد ان مدينة القدس مرتبطة بالعقيدة الاسلامية حيث ان يوم القيامة يمثل جزءا منها.
الارتباط التعبدي
يمكن بيان الارتباط التعبدي بالقدس من خلال النصوص الشرعية من الايات الكريمة والاحاديث النبوية الشريفة، ومنها:
1- قال الله العلي القدير : “قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها، فول وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره” – سورة البقرة الاية 144 . لقد استقبل المسلمون بيت المقدس في صلواتهم مدة ستة عشر شهرا اي مدة سنة واحدة واربعة اشهر، وفي رواية اربعة عشر شهرا.
2- ان ثواب الركعة الواحدة في الصلاة في المسجد الاقصى المبارك بخمسمائة ركعة في غيره من المساجد لقول رسولنا الاكرم محمد -صلى الله عليه وسلم –”فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره بمائة الف صلاة، وفي مسجدي الف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة”- رواه احمد وابن خزيمة عن الصحابي الجليل ابي الدرداء رضي الله عنه. ولهذا الحديث النبوي الشريف عدة روايات يقوى بعضها بعضا، ولا بد من الاشارة الى اننا حينما نذكر المسجد الاقصى المبارك فاننا نعني جميع منطقة المسجد )الحرم القدسي ( والذي تبلغ مساحته 144 دونما )اي مائة واربعة واربعين الف متر مربع( ولا نعني البناء المغطى فقط بل ان المنطقة تشمل المسجد القبلي اي البناء المغطى للاقصى، وجميع المرافق بما في ذلك مسجد الصخرة المشرفة والمصلى المرواني والاقصى القديم والمساطب واللواوين والاروقة والابار والسبل والباحات والممرات والجدران الخارجية وحائط البراق.
3- حث عليه الصلاة والسلام على زيارة المسجد الاقصى المبارك بقصد العبادة، وربطه بالمسجد الحرام بمكة المكرمة، والمسجد النبوي بالمدينة المنورة بقوله -صلى الله عليه وسلم –”لا تشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الاقصى “- متفق عليه عن الصحابي الجليل ابي سعيد الخدري- رضي الله عنه. -وفي رواية “المسجد الحرام والمسجد الاقصى ومسجدي هذا “.
4- ربط رسولنا الاكرم محمد -صلى الله عليه وسلم -المسجد الاقصى المبارك بمناسك الحج والعمرة بقوله: “من اهل بحجة او عمرة من المسجد الاقصى غفر له ما تقدم من ذنبه ” -رواه ابو داود والبيهقي عن ام المؤمنين ام سلمة -رضي الله عنها. –ومعنى (اهل ) بدأ بالتكبير والتلبية، او احرم من المسجد الاقصى بملابس الاحرام.
5- ان المقيم في مدينة القدس له ثواب المرابطة في سبيل الله فهو في عبادة مستمرة للحديث النبوي الشريف : “لا تزال طائفة من امتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا ما اصابهم من اللاواء حتى يأتيهم امر الله وهم كذلك. قالوا: يا رسول الله، واين هم؟ قال: ببيت المقدس واكناف بيت المقدس” – رواه احمد عن الصحابي الجليل ابي امامة الباهلي -رضي الله عنه- ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم .
6- في حديث نبوي شريف اخر :”يا معاذ، ان الله سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش الى الفرات رجالهم ونساؤهم واماؤهم مرابطون الى يوم القيامة، فمن اختار منكم ساحلاً من سواحل الشام او بيت المقدس فهو في جهاد الى يوم القيامة”- رواه ابن عساكر في كتابه تاريخ دمشق، والطبراني في كتابه الكبير، والمتقي في كتابه كنز العمال عن الصحابي الجليل ابي الدرداء -رضي الله عنه-. والمراد ب(معاذ ) هو الصحابي الجليل معاذ بن جبل -رضي الله عنه-. ان الحسنات تتضاعف في بيت المقدس، كما تضاعف السيئات، وذلك لشرف المكان وتعظيمه، والغرم بالغُنم.
الارتباط الحضاري والثقافي التراثي
1- يتمثل الارتباط الحضاري والثقافي والتراثي بما يأتي: البناء الفريد لكل من مبنى المسجد الاقصى المعقود-المغطى-المسقوف- القبلي، وكذلك مبنى مسجد قبة الصخرة المشرفة، بالاضافة الى اللواوين والاروقة والمساطب والموازين والادراج والسبل والممرات والآبار والجدران الداخلية والخارجية بما في ذلك حائط البراق، وجميع المرافق في باحات الاقصى التي هي جزء من الاقصى. ونؤكد بأن جميع المنطقة، والتي تبلغ مساحتها 144 دونماً، تعد كلها المسجد الاقصى المبارك.
2- وجود آلاف العقارات الوقفية والتاريخية الاثرية والتراثية في البلدة القديمة من مدينة القدس، والتي يعود تاريخها الى العصور العمرية والاموية والعباسية والايوبية المملوكية والتركية. وكذلك المباني والعقارات الملاصقة لاسوار المسجد الاقصى المبارك من الناحيتين الغربية والشمالية، والتي تقع في محيطه ايضاً، وفي انحاء فلسطين.
3- وجود العشرات من المساجد في البلدة القديمة من مدينة القدس والتي تعود الى العهد العمري والى العهود الاسلامية الزاهرة الاخرى، وكذلك المساجد الموجودة في البلدة القديمة من مدينة نابلس والبلدة القديمة من مدينة الخليل بما في ذلك المسجد الابراهيمي.
4- اقامة مئات المدارس والمعاهد والزوايا والاربطة والتكايا والسبل في محيط المسجد الاقصى المبارك وفي البلدة القديمة من مدينة القدس منذ العهد الصلاحي الايوبي حتى يومنا هذا.
5- اصدار عشرات المؤلفات والمجلدات التي تناولت مدينة القدس من جميع جوانبها التاريخية والجغرافية والسكانية والتراثية والحضارية.
6- وجود مئات الالاف من المعالم الاثرية والتراثية والتحف الفنية في البلدة القديمة من مدينة القدس. ولا ابالغ اذا قلت: ان كل حجر في هذه المدينة يحكي قصة، وينطق بفترة زمنية تاريخية اسلامية، وذلك ابتداءً من القصور الاموية التي تقع جنوب المسجد الاقصى المبارك وانتهاءً بعصر الاتراك العثمانيين.
7- وجود المئات من المخطوطات والرقومات في المتحف الاسلامي وفي مركز المخطوطات في المسجد الاقصى.
الخاتمة
ان وجودنا في مدينة القدس هو وجود ايماني عقدي بقرار الهي، وليس بقرار بشري، ولنا جذورنا المتأصلة القوية عبر التاريخ بل منذ بدء تدوين التاريخ، ولا تزال الشواهد قائمة والادلة قاطعة تنطق بذلك. وستبقى هذه الشواهد والادلة والمعالم قائمة الى يوم الدين، بإذن الله ورعايته، وان ذكرى الاسراء والمعراج تحفزنا للحفاظ على هذا التراث الالهي الذي لا تنقضي عجائبه الى ان يرث الله الارض ومن عليها وهو خير الوارثين ، وان مدينة القدس هي المحور والمرتكز لمعجزة الاسراء والمعراج.
اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل وارزقنا اليقين.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.