حديث الجمعة الديني: الوقت أمانة – الحلقة الثانية والأخيرة
17 ديسمبر، 2016
المضيعون للأوقات
إنه لما يؤسف له ويدعو للألم والحزن والمرارة أن نجد أناساً في المجتمع لا يقدرون قيمة الوقت، بل يستهينون به ويضيعونه ويقتلونه، إنهم يتصفون بصفات سلبية غير حميدة، منها:
1- أولاً الغفلة: إن الغفلة عبارة عن مرض يصيب عقل الإنسان كما يصيب قلبه بحيث يفقد الإحساس بالمسؤولية فلا يشعر بما حوله ولا يتجاوب مع غيره ولا يتعظ بما حصل معه، وليس لديه الاستعداد للتغيير إلى الأفضل فهو بليد في أحاسيسه ومشاعره، وقد حذر القرآن الكريم من الغفلة أشد تحذير في عدة آيات كريمة، منها قول سبحانه وتعالى “واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخفية ودون الجهر من القول بالغدو والآصال، ولا تكن من الغافلين”. سورة الأعراف الآية 204 وقوله عز وجل “ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً”. سورة الكهف الآية28.
وقوله رب العالمين في آية ثالثة ” لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد” سورة ق الآية 22.
2- ثانياً التسويف والتأجيل: هي صفة سلبية مقيتة في الإنسان لأنه، أي الإنسان، لا يقوم ولا يلتزم بما يطلب منه مما يقوده إلى الكذب وخلف الوعد والنفاق والعداوة مع الآخرين. وهذه الظاهرة منتشرة بشكل بارز في المجتمعات المتخلفة والاتكالية والكسولة !! فالأعمال متراكمة والواجبات متوقفة، وحقوق العباد ضائعة، وحركة الحياة معطلة في حين أن رسولنا الأكرم e قد حثنا على العمل واغتنام الفراغ وعدم التسويف والتأجيل حتى لا تضيع الفرص علينا، وذلك في عشرات الأحاديث النبوية الشريفة، منها قوله عليه الصلاة والسلام “اغتنم خمساً قبل خمس “وذكر منها” … وفراغك قبل شغلك..” أخرجه البيهقي في السنن الكبرى والحاكم في المستدرك وأبو نعيم في حلية الأولياء وابن أبي شيبة في المصنف عن الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي: صحيح على شرطهما. ورواه الترمذي أيضاً مرسلاً عن التابعي عمرو بن ميمون الأودي وهو من كبار التابعين بالكوفة.
ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث شريف آخر “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”. متفق عليه عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه. وفي رواية لمسلم” وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم” فالمسلم الصادق العاقل هو الذي يستفيد من وقت الفراغ بالعبادات والطاعات والمطالعات، وأن يلتزم بالمواعيد والعهود والمواثيق، وأن يبتعد عن المماطلات والتسويفات. ولا يجوز له شرعاً أن يقتل وقته بلعبة الشدة (النرد) وطاولة الزهر، أو في التطاول على عباد الله بلسانه بالغيبة والنميمة وقذف المحصنات الغافلات والتعرض للآخرين زوراً وبهتاناً، كما لا يجوز له شرعاً أن يضيع حقوق العباد والبلاد فقد روي أن أحد الأمراء دعا رجلا من الصالحين إلى طعام فاعتذر له بأنه صائم تطوعاً. فقال له الأمير: افطر اليوم، وصم غداً. فقال هذا الرجل: وهل تضمن لي أن أعيش إلى الغد؟ نعم هذا هو الموقف الإيماني الصادق فلا أحد يضمن لأحد أن يعيش إلى الغد، وعليه فلا يجوز للإنسان أن يؤجل عمل اليوم إلى الغد، فالموت يأتي بغتة وفجأة بلا استئذان، ورحم الله الشاعر حين قال من قصيدة مطولة:
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من سليم مات من غير علة وكم من سقيم عاش حين من الدهر
وكم من فتى يحيى ويصبح آمنا وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
3- سب الزمان: هذا أمر منهي عنه، ولا يصدر إلا حين يحس الإنسان بالفشل والإحباط والهزيمة والتهرب من المسؤولية وتحميل أخطائه إلى غيره وقد نهى رسولنا الأكرم r عن سب الزمان والدهر بقوله “لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر” رواه مسلم عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه. أي أن الله رب العالمين هو الذي وضع سنن الحياة وناموس الطبيعة، وأنه عز وجل يسيّر الكون بنظام منسق، فلا يجوز لنا شرعاً أن نسب الدهر مجازاً، وقد أشار أحد الشعراء إلى عدم سب الزمان وعدم هجوه فإنه لا فائدة ترجى من سب الزمان، وإنما ينبغي أن نعيب أنفسنا وأن نحاسبها بهدف الإصلاح والتقويم فيقول:
نعيب زماننا والعيب فينا ومال لزماننا عيب سوانا
ونهجوا ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان بنا هجانا
وعليه فإن سب الزمان مردّه إلى ضعف الإيمان واهتزاز الشخصية والشعور بالهزيمة الداخلية الكامنة في الإنسان.
الخاتمة
يتوجب على الإنسان سواء كان موظفاً أو معلماً أو عاملاً أو تاجراً أو مزارعاً أو صانعاً أو طالباً أن يحافظ على وقته كما يحافظ على ماله، وأن يحرص على الاستفادة من الوقت كله فيما ينفعه في دينه ودنياه.
فالإنسان في عبادة شاملة مستمرة، وقد كان سلفنا الصالح، رضوان الله عليهم، أحرص ما يكونون على أوقاتهم لأنهم كانوا أعرف الناس بقيمها. فالوقت أمانة بل إن الوقت هو الحياة، فيقول عليه الصلاة والسلام “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما انفقه، وعن علمه ماذا عمل به. “رواه البيهقي في شعب الإيمان عن الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه. كما رواه الترمذي والطبراني والبزار من طرق أخرى.
اللهم فقّهنا في الدين وعلّمنا التأويل وارزقنا اليقين.
“والله يقول الحق وهو يهدي السبيل” سورة الأحزاب-الآية 4.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.