حديث الجمعة الديني: ولكن الشياطين كفروا
30 سبتمبر، 2016المقدمة
لا يقتصر لفظ الشياطين على الجن وإنما يشمل الإنس أيضاً، فكما أنه يوجد شياطين من الجن فكذلك الأمر يوجد شياطين من الإنس. والله سبحانه وتعالى يقول “… ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر” سورة البقرة، الآية 102. ويقول عز وجل آية أخرى “وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زُخرف القول غروراً، ولو شاء ربُّك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون” سورة الأنعام، الآية 112.
فهؤلاء الشياطين قد كفروا لأنهم يعلمون الناس السحر ويعملون به، وأنهم لا يزالون يعيثون فساداً في الأرض، ويصولون ويجولون ويتكسّبون عن طريق السحر ومشتقاته، ويجمعون الأموال الطائلة من العامة من الناس مستغلين سذاجتهم وضعف إيمانهم وتلهفهم لقضاء حوائجهم الخاصة وشؤونهم العائلية. وأن هؤلاء الشياطين الذين يتعاطون السحر في هذه الأيام من المسلمين ومن غير المسلمين يتّبعون أساليب متنوعة وملتوية، ويحاولون إضفاء الصيغة الدينية عليها.
ضروب السحر
لقد ذكر علماء التوحيد والفقه قديماً وحديثاً مجموعة من هذه الضروب والأساليب والتي ينبغي التعرض إلى أبرزها ليحترز الناس من الوقوع في أحابيلها، وهي:
1_ الضرب الأول: التخيّل والخداع والتمويه
هذا ما يفعله بعض المشعوذين حيث يُريك أنه ذبح طيراً ثم يُريك أن الطير قد طار بعد ذبحه!! وذلك لخفة حركة المشعوذ. والمذبوح في الحقيقة، غير الذي طار فعلاً لأنه يكون معه
طيران اثنان قد خبّأ أحدهما وهو المذبوح، وأظهر الآخر غير المذبوح. دون أن ينتبه أحد لحركاته البهلوانية. وهناك صورة أخرى بأن يقوم المشعوذ بإعطاء الطائر كمية من البنج ويبدو كأنه مات بالخنق. ويراه الناس بأنه ميت، ويكون المشعوذ قد وضع في يده الأخرى كمية من النشادر ومن المواد المنبهة فإذا بالطير يتحرك!! وهكذا من الحركات والألعاب التي تنطلي على الناس البسطاء!!
سحرة فرعون
من هذا القبيل ما قام به سحرةُ فرعون في مصر حيث تحدّوا موسى عليه السلام فقد كانت عصيّهم مجوّفة وقد ملأت زئبقاً (الزئبق من العناصر الفلزية ويكون على شكل سائل، ومن خواصه أنه شديد التأثر بالحرارة فيتمدد بسرعة، وأنه لا يلتصق بالإناء الذي هو فيه). وكذلك الحبال كانت من الجلد محشوة أيضاً زئبقاً. وقد حفروا في الأرض أسراباً وملؤوها ناراً فلما طرحت الحبال والعصي على الأرض وحمى الزئبق الذي بداخله تحركت هذه الحبال والعصي فاندهش المشاهدون لما رأوا وأصابتهم الرهبة وانخدعوا بهذا التمويه. وقد وصف القرآن الكريم حالة اندهاش المشاهدين فيقول عز وجل “فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم” سورة الأعراف، الآية 116. ولم يقتصر الخوف على المشاهدين فحسب، بل شمل الخوفُ موسى عليه السلام نفسه وقد وصف القرآن الكريم ذلك بقوله عز وجل “فإذا حبالهم وعصيّهم يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى. فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا: لا تخف إنك أنت الأعلى” سورة طه، الآيات 66-68. وتتدخل العناية الربانية بردّ كيد فرعون والسحرة إلى نحورهم بأن منح الله رب العالمين موسى عليه السلام معجزةً لإبطال السحر فيقول عز وجل “وأوحينا إلى موسى أن ألقِ عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون” سورة الأعراف، الآية 117. ويقول سبحانه وتعالى في آية أخرى “قال موسى: ما جئتم به السحر إنّ الله سيبطله، إنّ الله لا يصلح عمل المفسدين” سورة يونس، الآية 81. ويقول رب العالمين في آية ثالثة “وألقِ ما في يمينك تلقف ما صنعوا، إنما صنعوا كيد ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى” سورة طه، الآية 69. حينئذ تأكّد للسحرة أن ما جرى على يديْ موسى عليه السلام هو معجزة ربانية وليس سحراً، فما كان منهم إلا أنْ خرّوا سجّداً، وآمنوا بالله العلي الكبير فيقول عز وجل في هذا المقام “فأُلقي السحرةُ سجّداً قالوا: آمنّا بربّ هارون وموسى” سورة طه، الآية 70. إلا أنّ فرعون أبى واستكبر واستمر في جبروته وكبريائه ومكابرته وعناده وفساده وإفساده، وتهدد وتوعد، وكان الجواب الإيماني الصادق الذي صدر عن السحرة إلى فرعون في قوله تعالى “فاقضِ ما أنت قاضٍ، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر، والله خير وأبقى” سورة طه، الآية 73. كما وردت هذه الحادثة في سورة الشعراء فيقول سبحانه وتعالى “فأُلقي السحرة ساجدين. قالوا: آمنا برب العالمين. ربِّ موسى وهارون. قال: آمنتم له قبل أن آذن لكم، إنه لكبيركم الذي علّمكم السحر فلسوف تعلمون، لأقطعنَّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنّكم أجمعين. قالوا: لا خير، إنا إلى ربنا منقلبون. إنّا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين” الآيات 46_ 51.
2_ الضرب الثاني: الكهانة والعرافة
هذا هو الضرب الثاني من ضروب السحر، ويحسن بداية بيان المراد بالعراف: وهو الذي يدّعي معرفة الوقائع الغامضة والمجهولة كالسرقة وسارقها، والدابة الضالة ومكانها. والكاهن هو الذي يدّعي أنه يخبر عن المغيبات في المستقبل. وهناك تعريفات أخرى للكاهن وللعراف إلا أنها متقاربة في مضمونها وفحواها. وأقول: يقوم بعض العرّافين والكهان بأعمال تعتمد على “التواطؤ” وذلك بأن يكلّفوا أُناساً بالاطلاع على الأسرار الخاصة بالناس حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها زاعمين أنهم يستعينون بقوى خفية. وفي الحقيقة ما هي إلا مواطأة مع أشخاص قد أعدّوهم لهذه المهام. وقد قيل: أنّ أحد الأشخاص من الذين يتظاهرون بالتقوى والصلاح والكرامات كان يتفق مع جماعة له فيضعون خبزاً ولحماً وفاكهة في مواضع معيّنة ومحدّدة في باطن الأرض. ثم يمشي مع أصحابه ويأمر بحفر هذه المواضع فيخرجون ما دفن في الأرض من الخبز واللحم والفاكهة فيعدّونها من الكرامات!! وهناك مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة التي تحذّر من التعامل مع كل من الكاهن والعراف فيقول (عليه الصلاة والسلام) في هذا المجال “مَنْ أتى كاهنا فصدّق بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد” رواه أحمد وأبو داود عن الصحابي الجليل أبي هريرة . ويقول أيضاً “مَنْ أتي عرفاً فسأله عن شيء نصدّقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً” رواه مسلم عن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها.
3_ الضرب الثالث: النميمة والوشاية والإفساد
من ضروب السحر أيضاً: أن يحقق الساحر ما يريد عن طريق النميمة والوشاية والإفساد، وذلك باتباع أساليب خفية شيطانية غير ملحوظة، وهذا الضرب من السحر شائع بين الناس فقد حكي أن امرأة تكيد لزوجيْن سعيديْن متآلفيْن، وأرادت هذه المرأة أن تفسد بينهما من علاقة حميمة، فوضعت خطة جهنمية شيطانية، فقد جاءت إلى الزوجة وقالت لها: إنّ زوجك معرض عنك وهو يريد أن يتزوج عليك، وسأسحره لك حتى لا يريد سواك، ولكن لا بدّ أن تأخذي من شعر لحيته بالموس ثلاث شعرات حالة يكون نائماً، وتسلّميني هذه الشعرات حتى أتمكّن من سحره. ثم ذهبت هذه المرأة إلى الزوج في نفس اليوم وقالت له: إنّ زوجتك قد أحبّت رجلاً آخر، وأنها قد عزمت على ذبحك بالموس عند النوم هذه الليلة لتتخلّص منك، وقالت له أيضاً: وقد أشفقت عليك ولزمني نصحك فتيقّظ لها هذه الليلة وتظاهر بالنوم، فستعرف صدق كلامي. وما الذي حصل؟ لما جاء الليل تناوم الزوج في بيته فجاءت زوجته البريئة بالموس لتقص بعض شعرات من لحيته ففتح الرجل عينيْه فرأى زوجته وقد اقتربت بالموس من حلقه فتوهّم أنها تريد قتله فقام إلى زوجته البريئة الساذجة وقتلها!! فبلغ الخبر أهل الزوجة فقتلوه!! وهكذا كان الفساد بسبب الوشاية والنميمة. وكم هُتكت أعراض وزُهقت أرواح وهُدمت بيوت نتيجة لذلك، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
4_ الضرب الرابع من ضروب السحر: الاحتيال
إن الضرب الرابع من ضروب السحر هو الاحتيال وذلك بإطعام الشخص بعض الأدوية والمواد المؤثرة في العقل أو إعطائه بعض الأطعمة التي لها تأثير على الفكر والذكاء، فيتصرف هذا الشخص تصرفاً غير سليم فيقول الناس عنه: أُصيب بمسّ أو أنه مسحور. وإن الاحتيال يُعدّ من الأعمال الكيديّة. وقد تكون الأعمال الكيديّة محسوسة كما ورد عن طريق الأطعمة أو الأشربة. وقد تكون غير محسوسة وذلك بالكلام واللمز والهمز والغمز والتآمر من رفاق السوء ومنْ ْهم على شاكلتهم. وعلى المسلم الحريص على دينه وعقله أن يكون حذراً من رفاق السوء ومن تحايلاتهم الشيطانية.
هذه لمحة موجزة عن بعض ضروب السحر ليكون المسلم على بيِّنةٍ من أمره وليأخذ حذره.
الرقية المشروعة
لا بدّ في هذا المجال من التوضيح إلى أن “الرقية” بالمفهوم الجاهلي هي محرمة شرعاً وهي مظهر من مظاهر الشرك، وهي عبارة عن كلام غير مفهوم يكتب بلغةٍ غير العربية، ويستعان بها بغير الله كالجنّ والنجوم.
أما الرقية المشروعة فهي التي تتوفر فيها الشروط الآتية مجتمعة، وهي:
1_ أن تكون باللغة العربية كتابةً أو مشافهةً.
2_ أن تكون عباراتها مفهومة وواضحة، فإذا اختلطت الرقية بكلام آخر غير مفهوم تصبح حراماً وغير مشروعة.
3_ ينبغي أن تتضمن آيات من القرآن الكريم أو أسماء الله الحسنى أو أي دعاء مأثور.
4_ أن تكون الاستعانة بالله عز وجل وحده لا شريك له.
5_ أن يعتقد المسلم اعتقاداً جازماً بأن الرقية لا تؤثّر بذاتها، بل بتقدير الله سبحانه وتعالى، أي أن الشافي هو الله وحده.
6_ عدم التكسّب بالرقية لأنه بمثابة دعاء ورجاء، وليست علاجاً ودواءً. وعليه فلا يجوز شرعاً فتح ما يسمى بالعيادات القرآنية بقصد الارتزاق والابتزاز.
هذا وقد ورد أن الرسول كان يدعو بالشفاء للمريض بقوله “اذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاءً إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً” رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم والذهبي عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود . وعن الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري قال “كان رسول الله يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلتا أخذ بهما، وترك ما سواهما”. رواه الترمذي وابن ماجه والنسائي. والمعوذتان هما: سورة (الفلق) والتي تبدأ “قل أعوذ برب الفلق”، وسورة (الناس) والتي تبدأ “قل أعوذ برب الناس”، كما حثّ (عليه الصلاة والسلام) على التداوي واستعمال الدواء للعلاج. ولا بد من الإشارة إلى أن من أهداف الرقية إبطال السحر وطرد الجان من الإنسان، وكشف الدجالين والمشعوذين.
الخاتمة
إن المسلم الصادق هو الذي يحرص على صفاء إيمانه وثبات عقيدته، ويحذر أساليب السحرة والكهان والعرافين والمشعوذين. وهو الذي يلتزم بالكتاب والسنة في تصرفاته وحركاته وسكناته جميعها ليلقى الله رب العالمين وهو بريء من الشرك وأدرانه وشوائبه، وبعيدٌ عن وساوس الشيطان وأحابيله.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
“والله يقول الحق وهو يهدي السبيل” سورة الأحزاب-الآية 4.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.