حديث الجمعة الديني : “استقبال رمضان”
15 سبتمبر، 2016قال الله عزوجل : “يا ايها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ” -سورة البقرة الاية 183 .
في هذه الأيام يستقبل مئات الملايين من المسلمين في مشارق الارض ومغاربها ضيفاً كريماً يحل في قلوبنا، ويهيمن على عقولنا وجوارحنا ومشاعرنا ، ويحلّق في سمائنا مدة شهر واحد من كل عام هجري، انه الشهر العظيم، شهر الصوم، شهر رمضان المبارك الذي باركه رب العالمين بنزول القرآن الكريم فيه، كما باركه بفريضة الصيام، انه الشهر الذي يتوق اليه مئات الملايين من المسلمين الصائمين ليتذوقوا طعم العبادة المستمرة، وليخلصوا لله الطاعة، انه الشهر الذي يشهد يوم القيامة بالاحسان لمن أحسن، وبالاساءة لمن أساء، والعاقبة للمتقين.
الرسول صلى الله عليه وسلم يرحب برمضان
روى الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه ان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب في آخر يوم من شعبان قائلا “يا ايها الناس قد اظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصله من الخير كان كمن ادى فريضة فيما سواه، ومن ادى فريضة فيه كمن ادى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة “- رواه البيهقي وابن خزيمة، والمتقي في كنز العمال، والخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح وابن المنذري في الترغيب والترهيب.
العبادة المميزة
في هذا الشهر العظيم المبارك تتجلى العبادة الخالصة لله عزوجل، لا يشوبها رياء ولا نفاق ولا مباهاة، حيث اضافها الله عزوجل اليه وميزها عن سائر العبادات الاخرى للحديث القدسي، قال الله تعالى «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها الى سبعمائة ضعف، قال تعالى”: الا الصوم فإنه لي وانا اجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي” – متفق عليه، واللفظ لمسلم عن الصحابي الجليل ابي هريرة رضي الله عنه. وقد تناول العلماء الاجلاء هذا الحديث القدسي بالتحليل، واوضحوا الحكمة من اضافة الصوم لله عزوجل.
1. لقد انفردت عبادة الصوم منذ القدم، قبل الاسلام عن العبادات الاخرى بأنه لم يسبق لاحد ان عظّم غير الله في الصوم، فلم يعظم الكفار في اي عصر من العصور السابقة معبوداً لهم من خلال عبادة الصوم، بينما عظّموا غير الله من خلال ادائهم للصلاة والحج والذبائح والنذور وغير ذلك من العبادات والطاعات.
2. ان الصوم في حقيقته بعيد عن الرياء والنفاق والمباهاة، وذلك لخفاء عبادته، بخلاف الصلاة والزكاة والحج والذبائح والنذور وغيرها من العبادات والطاعات فهي معرضة لان يتسرب الى الشخص خصلة من الرياء والنفاق اثناء ادائها، بينما لا مجال للرياء ان يتسرب الى الصوم لان الصوم عبادة خفية.
3. لقد اختص الله رب العالمين لنفسه العلم بمقدار الثواب الذي سيناله الصائمون، وان زيادة حسناتهم ستكون مضاعفة الى ما شاء الله، وان الله عزوجل لم يُطلع احداً من البشر على مقدار هذا الثواب العظيم.
4. ان اضافة الصوم لله عزوجل هي اضافة تشريف وتكريم، وفي ذلك بيان لعظم فضل الصوم والحث عليه، ولبيان كثرة ثوابه وسعة عطائه. ولابد من الاشارة الى ان الصائم لحظة إمساكه عن الطعام فجراً وحتى افطاره مغرباً يكون في عبادة مستمرة تسجل له الحسنات من دام في هذه العبادة، لذا لا يستطيع الانسان، اي انسان، ان يحصر الحسنات او ان يعرف مقدارها.
الصوم والتوبة
في هذا الشهر المبارك تفتح خزائن الفضل والرحمة والاحسان وتقبل ليالي الجود والعفو والغفران لقول رسولنا الاكرم محمد -صلى الله عليه وسلم- : “اذا جاء رمضان فتحت ابواب الجنة، وغلقت ابواب جهنم وسلسلت الشياطين ” -وفي رواية “صفدت الشياطين ” والمعنى واحد، متفق عليه عن الصحابي الجليل ابي هريرة -رضي الله عنه-، والحكمة من ذلك حتى يكون الناس متحفزين للاقبال على الله عزوجل، وان يكونوا متهيئين للتوبة النصوح الخالصة له سبحانه وتعالى، فان باب التوبة مفتوح على مصراعيه ينتظر التائبين المستغفرين العابدين، فمن رحمة الله رب العالمين لعباده ان فتح لهم باب التوبة في هذا الشهر الفضيل الذي اوله رحمة واوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.
الصوم تقوى وتهذيب
لفريضة الصوم حكم جليلة وقيمة يجهلها او يتجاهلها بعض المسلمين متوهمة ان الصوم هو الجوع والعطش، وانهم يعطون عنايتهم لشراء ما لذّ وطاب من الطعام والشراب، وينصرف تفكيرهم الى ذلك. كما يتوهمون ان شهر رمضان هو شهر نوم وكسل وارتخاء!! في حين ان الصوم في حقيقته يقود الى تقوية الايمان والى نماء التقوى في النفوس (لعلكم تتقون ) انها التقوى التي تؤدي الى حفظ النفس من النقائص والانحراف والثرثرة والبذيء من الكلام والكف عن الغيبة والنميمة فليس الصوم الامتناع عن الاكل والشرب فحسب، بل هو ترك ونبذ للصفات السيئة كاللغو والسباب والكذب والدجل والثرثرة والنفاق والغيبة والنميمة، وفي ذلك يقول رسولنا الاكرم -صلى الله عليه وسلم -من حديث مطول “الصوم جنة فاذا كان يوم صوم احدكم فلا يرفث ولا يصخب فان سابك احد او جهل عليك فقل: اني صائم”- اخرجه البخاري عن الصحابي الجليل ابي هريرة -رضي الله عنه-، ويقول -عليه الصلاة والسلام- في حديث نبوي شريف آخر: ” من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في ان يدع طعامه وشرابه “- اخرجه البخاري واحمد وابوداود والترمذي وابن ماجه عن الصحابي الجليل ابي هريرة- رضي الله عنه-.
العبودية لله تعالى
إن الصوم رمز لعبودية الانسان لرب العالمين، فعباد الله حقا هم الصائمون، وهم المحافظون على حرمة رمضان، اما المفطرون الذين يجاهرون وينتهكون حرمة رمضان فهم العبيد لنزواتهم واهوائهم وغرائزهم، وان الذي يفطر في رمضان متعمدا يكون مهزوما في داخله منحرفا في سلوكه هابطا في افكاره لانه لا يستطيع ان يسيطر على نزواته وأهوائه وغرائزه. والمعلوم بداهة ان الذي يهزم داخليا لا يرجى منه الخير لامته ووطنه، ولا يؤتمن على مصالح الناس، ولا يصلح ان يكون اهلا للقيادة وريادة الامة.
الصوم والصبر
ان الصوم يعود الصائم على الصبر والثبات على المكاره والعقبات، فالصائم يضبط نفسه في الامتناع عن الاكل والشرب ويضبط نفسه عن الكذب واللغو وفحش الكلام، وعن مخاصمة الناس والمنازعة معهم، كما يضبط نفسه ولا يكترث بالذين ينتهكون حرمة هذا الشهر العظيم من قبل اناس ساقطين طبع الله على قلوبهم، ومن المعلوم بداهة ان الانتصارات الكبرى التي حققها المسلمون عبر تاريخهم المجيد كان في شهر رمضان المبارك، حتى عرف هذا الشهر بشهر الانتصارات.
الخاتمة
حري بالمسلمين في انحاء المعمورة ان يستقبلوا شهر الصيام خير استقبال، وذلك تأسيا برسولنا الاكرم- صلى الله عليه وسلم- الذي كان يستقبل هذا الشهر بالعبادات من الصيام والتراويح وقيام الليل والتهجد والاعتكاف وتلاوة القرآن الكريم وتأدية الزكاة وصدقة الفطر والصدقات العامة.
كما ينبغي على المسلمين جميع المسلمين، المحافظة على هذه العبادة التي هي ركن من اركان الاسلام، وعليهم ان يولوا عنايتهم بها وان يراعوا حرمة هذا الشهر الفضيل في الطرقات والشوارع والازقة والاسواق والمكاتب والمتاجر والمدارس ودور العلم والاماكن العامة وان يبرزوا الطابع الاسلامي الحضاري لبلادنا المباركة المقدسة من خلال هذا الشهر المبارك.
واخيرا اقول:
اخي الصائم كن صائما منتصرا على الشهوات، ولا تكن مفطرا مهزوما امام الشهوات، كن عاملا للوحدة، ولا تكن سببا في التفرقة .
وتقبل الله منا ومنكم الطاعات.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.