حديث الجمعة الديني : الأثرة والإيثار
23 سبتمبر، 2016إن الأثرة (بهمزة واحدة) هي الاستئثار بالشيء، أي خصّ به نفسه، وهي ترادف كلمة “الأنانية” بالمصطلح الحديث، وهي صفة سلبية غير محمودة في الإنسان إذا اتصف بها، ويمكن القول: إن الأثرة تنتشر في المجتمعات المتخلفة والهابطة والضعيفة، ولها عدة صور وأشكال غير مرغوب فيها.
صور الأثرة (الأنانية)
إن صفة الأثرة تظهر في الأفراد (أي على مستوى الأفراد) كما تظهر هذه الصفة الذميمة في شخص الحاكم أو في شخصه مع بطانته (المجموعة المحيطة به) بحيث تدور الحياة في البلاد حول الحاكم فقط، وأن الشعب كله مهمش أو بمنزلة العبيد حتى إن الحاكم يتحكم بخيرات البلاد ويسيطر عليها ويتصرف فيها، ويستبيح أموال المواطنين وممتلكاتهم، فكأن البلاد قد تقزمت في شخص الحاكم، وهذه هي الأنانية المفرطة، والتي تعد من أخطر أنواع وصور الأنانية في المجتمعات البشرية والإنسانية، وهذه الأنانية التي تعرف بالأثرة –أي الاستئثار بالشيء- وأن الحاكم قد خصّ البلاد لنفسه فكأنها ملك له، حتى إن كتابة التاريخ تدور حول شخصه فقط، وإن الجيوش تقاتل لحمايته فقط، وإن الشعراء يتفرغون في مدحه، ويغرقون في الكذب والنفاق، وهذا المشهد يمثل الجاهلية بعينها.
الشعب هو الضحية
يمكن القول إن الشعب يضمحل ويذوب في شخص الحاكم مما يؤدي إلى شل حرية المواطنين، وفقد كرامتهم، وضعف أعمالهم، وتراجع إنتاجهم، ولا ينتفع من خيرات البلاد إلا الحاكم والبطانة التي تحاصره والتي تزين له الأمور على غير حقيقتها من خلال الكذب والبهتان والتزوير والنفاق!! وأن المواطنين يزدادون فقراً وعوزاً ، وكما هو معلوم أنه إذا أتخم الحاكم تجوع الرعية. وهذه الأمور بطبيعة الحال تتناقض مع رسالة الإسلام السامية الحضارية، وتتعارض مع الأحكام الشرعية الرفيعة التي تدعو إلى العدل وإلى حفظ حقوق المواطنين من مسلمين وغير مسلمين.
الإيثار على النفوس
آثر (بالمد أي بهمزتين) ايثاراً أي فضّل غيره على نفسه، وهذا المعنى هو عكس الأثرة (الأنانية). فإن زيادة حرف الهمزة قد قلبت المعنى من صفة سلبية إلى صفة ايجابية، والله سبحانه وتعالى يقول: “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون” سورة الحشر-الآية9. هذه الآية الكريمة من سورة الحشر وهي مدنية، وفيها مدح للأنصار من الأوس والخزرج (اهل المدينة المنورة) رضي الله عنهم من صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
سبب نزول الآية الكريمة
لهذه الآية الكريمة روايتان لسبب نزولها وردتا في كتب التفسير والحديث الشريف وهما:
الرواية الأولى:
أتى رجل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: أصابني الجهد- أي الفقر والجوع-، فأرسل –عليه الصلاة والسلام- إلى نسائه فلم يجد عندهنّ شيئاً، فقال –صلى الله عليه وسلم- ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقال أبو طلحة –رضي الله عنه- أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله وقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فاطفئي السراج، ونطوي الليل لضيف رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لقد عجب الله الليلة من صنيع فلان وفلانة، ونزل فيهما: “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون” سورة الحشر-الآية9. والرواية أخرجها البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن الصحابي الجليل أبي هريرة –رضي الله عنه- والإيثار هو تفضيل وتقديم الآخرين على النفس، ومعنى خصاصة: حاجة وعوز وفقر.
الرواية الأخرى:
لقد ذكرت كتب السيرة النبوية رواية أخرى مشرقة في تاريخ حضارتنا الإسلامية وهي تؤيد الرواية السابقة حول سبب نزول هذه الآية الكريمة، ومفادها: لقد أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان فقير الحال، ولكنه أحس أن جاره أشد منه حاجة فأرسله إليه، فإذا بجاره يحس بنفس الشعور تجاه جار ثالث فيرسل رأس الشاة له، وهكذا فكل جار يرسله إلى أقرب جار له، فتداولت رأس الشاة سبعة بيوت من الجيران، حتى رجع إلى الأول، فنزلت: ” وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ” فأين نحن من هذا الايثار.
الإسلام يشجع على الايثار
لقد جاء ديننا الإسلامي العظيم هادماً للأنانية وللجاهلية، مشجعاً على فعل الخير وعلى الايثار وعلى نكران الذات في سبيل نفع المجتمع والمصلحة العامة، وأن سيرة الرسول محمد –صلى الله عليه وسلم- وسيرة الصحابة الكرام –رضي الله عنهم- حافلة بآلاف المواقف المشرقة بالتضحيات وحب الخير والإيثار. وانتشر الإسلام بهذه الروح السامية الخيرة الانسانية فأنكر على الأكاسرة ملوك الفرس وعلى القياصرة ملوك الروم لاتباعهم نهج “الأناة” والظلم حتى زال ملكهم وتهاوت عروشهم، فلا مجال في الإسلام لأي نوع من أنواع الأنانية (الأثرة) سواء كانت هذه الأنانية من قبل فرد أو حاكم أو عائلة أو طائفة أو حزب من الأحزاب!!
نموذجان من الايثار
كلما ازداد ايمان المسلم كلما أحب الخير لغيره وسما ايثاره، وأذكر في هذا المقام نموذجين اثنين من ايثار حياة غيره على حياته، وهما:
النموذج الأول: الايثار الايماني الذي اتصف به الصحابي الجليل الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه ورضي الله عنه- حين نام في فراش الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليلة الهجرة النبوية. ضرب علي بن ابي طالب بذلك اروع نموذج للتضحية والفداء ويجود بنفسه فداء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والجود بالنفس اقصى غاية الجود، وعرف علي بانه اول فدائي في الاسلام.
النموذج الثاني: في معركة اليرموك (15ه/ 636م) ” اتى ساقي الماء عددا من الجرحى فكان أول من أتى الصحابي عكرمة بن هشام (ابن ابي جهل) ليسقيه فأشار إلى الساقي ليتوجه الى الصحابي سهل بن عمرو الذي أشار إلى الساقي ليتوجه إلى جريح ثالث هو الصحابي الحارث بن هشام. فلما وصل الساقي اليه اذ هو قد فارق الحياة وأسلم روحه لبارئها شهيداً. وحين عاد الى الثاني وجده كذلك شهيداً. حتى وصل إلى الأول فوجده كذلك أيضاً شهيداً. وكل منهم كان يؤثر الآخر على نفسه بشربة الماء. فارتقت أرواحهم إلى السماء عند بارئها قبل أن يشربوا الماء -رضي الله عنهم اجمعين-. فمر بهم الصحابي القائد خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فقال بنفسي أنتم.
هكذا كان المسلمون يتعاملون مع بعضهم بعضاً ، فأين المسلمون في هذه الأيام من الايثار وحبّ الخير؟!
مزاحمة غير المحتاجين للمحتاجين
هناك ظاهرة سلبية تطفو على السطح بين الفينة والاخرى تتمثل في تزاحم بعض المقتدرين غير المحتاجين للفقراء والمحتاجين حين توزيع المساعدات والمعونات!! نعم انها ظاهرة شاذة. أقول لغير المحتاجين: انكم اذا اخذتم اي مساعدة او معونة: مالية او عينية تكونون قد حرمتم المحتاجين منها، وان ما اخذتموه يعد اكلا للمال بالباطل، وقد نهى القرآن الكريم عن أكل اموال الناس بالباطل فيقول سبحانه وتعالى في سورة البقرة «”ولَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ “- الاية 188 ، ويقول عز وجل في سورة النساء ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ” – الاية 39 . ويقول رب العالمين في آية ثالثة: ” كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ . وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ . وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ” سورة الفجر الايات 17-20، والتراث الوارد في هذه الايات الكريمات هو (الميراث ) فكلما ضعف ايمان المسلم كلما اكل الميراث وحرم المستحقين منه، وما يأخذه يكون باطلا وظلما وبالمقابل فقد أثنى القرآن الكريم على الاشخاص الذين يحمون انفسهم من البخل والطمع ولا يعتدون على اموال غيرهم فيقول عزوجل : ” وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”- سورة الحشر الاية 9 وسورة التغابن الاية 16 . فالانسان الفالح الناجي من عذاب الله هو الذي يحمي نفسه من الشح والبخل، ويقول الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه في تفسيره لكلمة (الشح ) : انما الشح ان تأكل مال اخيك ظلما، فالمسلم الذي يقنع بما عنده من المال، ولا يعتدي على حقوق الآخرين، بل يؤثر غيره على نفسهو يحمي نفسه من الشح.
نداء الى المحسنين والمتبرعين
انني اذ اوجه خطابي ورجائي الى المحسنين والمتبرعين بأن يتحروا عن المحتاجين وان يسألوا عن العائلات المستورة لتصلهم المعونات والمساعدات الى بيوتهم حتى لا يضطروا الى مد الايدي، وحتى لا يقفوا في صفوف(طوابير ) يتدافعون امام مكاتب التوزيع، والله عزوجل قد وصف الفقراء والعائلات المستورة بقوله «” لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ” سورة البقرة –الآية 273 ويقول رسولنا الاكرم محمد -صلى الله عليه وسلم -ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والثمرة والثمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقدم فيسأل الناس – متفق عليه واللفظ البخاري عن الصحابي الجليل ابي هريرة رضي الله عنه. وبهذه المناسبة احث المتصدقين والمحسنين على تقديم العطاء فان الخير لا ينقطع في امتنا الاسلامية الكريمة والتي هي خير أمة اخرجت للناس، وان ديننا الاسلامي العظيم يدعو الى التكافل والتعاون والتراحم والتطوع والتبرع، واذكرهم بقول رسولنا الاكرم محمد- صلى الله عليه وسلم -ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى- متفق عليه عن الصحابي الجليل النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- وبقوله عليه الصلاة والسلام في حديث نبوي شريف آخر : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا – اخرجه البخاري ومسلم عن الصحابي الجليل ابي موسى الاشعري رضي الله عنه.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وصلى الله على سينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين