عِكرمة صبري

التمهيد
تقرر الإحتفال باليوم العالمي للغة العربية في الثامن عشر من شهر كانون الأول (ديسمبر) 18/ 12 من كل عام ، هذا اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190 عام 1973م بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية والمعمول بها في الأمم المتحدة، وذلك بعد اقتراح قدمته المملكة المغربية والمملكة العربية السعودية خلال إنعقاد الدورة المئة والتسعين للمجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو UNESCO ، علماً أن عدد المتحدثين باللغة العربية يزيد عن 422 مليون نسمة، بالإضافة إلى الملايين من المسلمين من غير العرب الذين برز فيهم علماء ودعاة وقارئون للقرآن الكريم وحافظون له.
هذا وقد شرف الله عز وجل اللغة العربية بان اختارها لغة للقرآن الكريم. وبالقران الكريم ختم الله العلي القدير الرسالات السماوية، وختم الأنبياء والمرسلين بمحمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم سيد البشرية جمعاء، بل ان هذه اللغة هي لغة اهل الجنة ايضا، كما انها لغة سيدنا ادم عليه السلام، والله سبحانه وتعالى يقول “وعلم آدم الاسماء كلها “- سورة البقرة الاية (31) من هذا المنطلق يمكننا القول : إن اللغة العربية تمثل أصول جميع اللغات البشرية كلها، وعنها تفرعت سائر اللغات، فلا نكون مبالغين اذا قلنا: إن اللغة العربية هي أم اللغات.

نشأة اللغات
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف نشأت اللغات لدى الأقوام والشعوب والأمم؟
والجواب: هناك أربعة آراء للإجابة عن هذا السؤال:
１- الرأي الاول: أن اللغة، أي لغة، استحدثت بالإتفاق، وأن الفاظها للمسميات كانت ارتجالا وعفويا.
２- الرأي الثاني: أن اللغة نشأت بدافع غرزي من الإنسان للتعبير عن انفعالاته وأحاسيسه ومشاعره على اعتبار أن جميع اللغات المنتشرة في العالم تعود الى أصول مشتركة.
３- الرأي الثالث: أن اللغة نشأت من الأصول الطبيعية أي ما اتصل بالحياة المسموعة كانهمار المطر، وتكسر الأشجار، ودوي الريح، وخرير المياه، وأن النطق بالحروف بدأ بمقاطع ثنائية (اي بحرفين) وانتقل منها للثلاثية كلما احتاج الإنسان إليها في حياته المتطورة.
４- الرأي الرابع: أن اللغة عبارة عن الهام أو وحي إلهي هبط على الإنسان فعلمه الله عز وجل النطق وأسماء الأشياء ومنحه العقل للتفكير.. حيث إن (النطق ) من حواس الإنسان التي أودعها الله فيه منذ أن خلق الله -عزّوجل- آدم عليه السلام، وبالتالي فإن اللغة هي في الاصل (توفيقية ) وليست اجتهادية كما أنها ليست عفوية ولا ارتجالية، والله سبحانه وتعالى يقول “وعلم آدم الأسماء كلها “- سورة البقرة الاية (31). لذا يمكننا القول :
إن اللغة العربية هي أقدم اللغات، وتطورت هذه اللغات حسب اختلاف البيئات، واللهجات من جهة، وحسب المخترعات والمبتكرات عبر التاريخ البشري من جهة اخرى. واصبحت هذه اللغات كأنها لغات جديدة منقطعة عن اللغة العربية. والمعلوم أن “الفكرة ” لدى الانسان بحاجة الى خلفية ليستند إليها، فان الله سبحانه وتعالى حين خلق آدم عليه السلام قد زوده باللغة وبالمعلومات حتى يتمكن من إعمال الفكر والاجتهاد والتطور (كتاب اللغة العربية اصل اللغات للدكتور عبد العزيز الخياط من ص 4 – ص 7 وبتصرف(.

القرآن والعجمة
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل توجد في القرآن الكريم ألفاظ أعجمية.
والجواب: هناك ثلاثة آراء في هذا المجال:
１- الرأي الاول: رأي يقول بوجود الفاظ أعجمية من لغات متعددة.
２- الرأي الثاني: رأي يقول بوجود الفاظ اعجمية، ولكن قد عربت وأصبحت عربية.
３- الرأي الثالث: رأي ينفي وجود ألفاظ أعجمية اي لا توجد ألفاظ معربة. ومن مقدمة القائلين بهذا الرأي: الإمام الشافعي وابن جرير الطبري وأبو عبيدة معمر بن المثنى وابن فارس ومجاهد وعكرمة وغيرهم من أجلاء العلماء وكبار الباحثين القدماء.. ومن المحدثين الشيخ احمد محمد شاكر والدكتور عبد العال سالم مكرم والشيخ الدكتور عبد العزيز الخياط. هذا وما دمنا قد أثبتنا أن اللغة العربية هي أقدم اللغات الانسانية بل هي أصل هذه اللغات فلا يوجد الفاظ أعجمية في القرآن الكريم، والصحيح أن الألفاظ التي قيل عنها أنها ألفاظ أعجمية هي في الحقيقة ألفاظ عربية قد أُعجمت أي نقلتها الشعوب والأمم الأخرى من العربية، أي عكس الرأي القائل بوجود الفاظ أعجمية في القرآن الكريم.
ونؤكد بأن هذه الألفاظ التي يقال عنها بأنها ألفاظ أعجمية قد تداولها العرب في كلامهم قبل الإسلام، وأسوق مثالاً واحداً على ذلك:
قيل أن لفظ “يحور ” هو لفظ حبشي ولكن في الحقيقة، إن لفظ “يحور” هو لفظ عربي فالله سبحانه وتعالى يقول “أنه ظن أن لن يحور ” سورة الانشقاق الاية 14 .

فان الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما لم يفهم المراد من لفظ “يحور ” إلى أن سمع أعرابية تقول لابنتها: حوري بمعنى ارجعي، وهذا يؤكد ان لفظ “يحور ” هو لفظ عربي بمعنى الرجوع والتغيير ، وكان متداول لدى العرب سابقا. وهذا يعني أن الأحباش قد اقتبسوا هذا اللفظ من العرب، وليس العكس. (انظر : تفسير المبصر لنور القرآن للداعية نائلة هاشم صبري –ط1- مجلد 11-ص:238، وكتاب اللغة العربية أصل اللغات للدكتور عبد العزيز الخياط ص:11 وص:18، وكتاب إطلالة علمية جديدة حول وقوع العرب في القرآن الكريم للدكتور محمد بلاسي من ص 64 -ص 74 وبتصرف)
احصائية الفاظ القرآن
إن عدد كلمات القرآن الكريم هو 77934 لفظا “سبعة وسبعون ألفا وتسعمائة وأربعة وثلاثون لفظا”
وأن الذين يقولون بوجود ألفاظ أعجمية في القرآن الكريم قد أحصوا هذه الالفاظ بمائة لفظ تقريبا من لغات: سريانية ورومية وفارسية وحبشية وقبطية ونبطية وغيرها..!! فان وجود هذا العدد من الالفاظ – اذا افترضنا أنها أعجمية، لايؤثر على “عروبة ” القرآن مع الإشارة إلى أن لفظ “عربي ” قد ورد في القرآن الكريم في أحد عشر موضعا (أذكرها حسب تسلسلها في القرآن الكريم .)
-1 “إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون” . -سورة يوسف الاية 2.
-2 “وكذلك أنزلناه حكما عربيا..” -سورة الرعد الاية 37 .
-3 “ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين”- سورة النحل الاية 103 .
-4 “وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا”- سورة طه الاية 113.
-5 “وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين” -سورة الشعراء الاية 192 – 195 .
-6 “ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون، قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون” – سورة الزمر الايتان 26 – و 27 .
-7 “كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون” .- سورة فصلت (حم السجدة ) الاية 3.
-8 “ولو جعلناه قرآنا اعجميا لقالوا: لولا فصلت آياته، أعجمي وعربي، قل: هو للذين آمنوا هدى وشفاء” -سورة فصلت (حم السجدة ) الاية 44.
-9 “وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه” – سورة الشورى الاية 7.
-10 “إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون” – سورة الزخرف الاية 3.
-11 “وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين” – سورة الاحقاف الاية 12
وهناك موقعان آخران يشيران الى ان القرآن الكريم قد نزل بلسان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهما:
-1 “فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين ولتنذر به قوما لدا” – سورة مريم الاية 97 .
-2 “فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون” – سورة الدخان الاية 58 .

ميزات اللغة العربية
للغة العربية ميزات عدة أشير إلى سبع منها:
-1 ديمومة اللغة العربية – إن اللغة العربية دائمة وقائمة إلى يوم الدين؛ لأنها لغة القرآن الكريم فالله سبحانه وتعالى يقول: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون “- سورة الحجر الاية 9. وبما أن القرآن الكريم دائم وقائم إلى يوم القيامة فاللغة العربية تبعا له قائمة ودائمة إلى يوم القيامة، بالإضافة إلى أن لغة أهل الجنة هي اللغة العربية.
2-الاشتقاق والتوليد- تمتاز اللغة العربية بالإشتقاق والتوليد في الألفاظ والكلمات والموازين الصرفية للفعل الثلاثي وما فوق الثلاثي مما جعل اللغة العربية غنية وثرية بمئات الآلاف من الألفاظ والكلمات وصدرت كتب ومؤلفات وموسوعات ومعاجم في (علم الصرف ) مثل (مركبة ) من ركب، و (مكتبة ) من كتب .
3-مزيدات الحروف -ان مزيدات الحروف على الأفعال تعطي معاني جديدة ومتعددة ومتنوعة ومتشعبة فنقول على سبيل المثال غفر الله ذنب التائب. ونقول: استغفر العاصي ربه اي طلب المغفرة من الله. فنلاحظ ان زيادة الحروف (همزة الوصل والسين والتاء) قد أعطت معنى جديداً، وهكذا وأحيانا تؤدي زيادة الحروف إلى معنى معاكس للمعنى الاصلي، مثال على ذلك: شفى الله المريض. بمعنى عافاه من المرض. بينما حينما نقول: أشفى المريض على الموت. أي اقترب منه، فيلاحظ أن زيادة همزة القطع على الفعل المجرد قد عكس المعنى الاول، وهكذا.
4- مناسبة الحروف للمعاني -تمتاز اللغة العربية بأن حروفها مناسبة لمعانيها فالمعنى الضخم يعبر عنه بحرف ضخم في النطق والسمع، وان المعنى اللطيف الرقيق يعبر عنه بحرف رقيق في النطق والسمع. وقد اعتنى علماء (علم التجويد( للقرآن الكريم بهذا الجانب، فوصفوا الفم وجهاز النطق من اللسان والحنجرة والشفة والفك والانف والخيشوم بالصورة والكلمة وبشكل تفصيلي. ثم شرحوا وظائف هذه الاعضاء لمخارج الحروف بكل دقة من التفخيم والترقيق والادغام والمد وغيرها. هذا وقد صدرت عشرات المؤلفات قديما وحديثا في (علم التجويد )وموضوعاته المتنوعة بتوسيع وتفصيل.
5-الإعراب لاواخر الكلمات-بالاضافة إلى (علم الصرف) هناك (علم النحو) الذي يهتم بالإعراب من الرفع والنصب والجر للأسماء، ومن الرفع والنصب والجزم للأفعال. هذا وقد صدرت عشرات الكتب والمؤلفات قديما وحديثا في (علم النحو) ايضاً.
6-علوم البلاغة-إن الموضوعات البلاغية في اللغة العربية متعددة ومتشعبة من خلال علوم “البيان والمعاني، والبديع” بما في ذلك معاني الحقيقة والمجاز والتشبيهات والكنايات هذا وقد وضعت عشرات الكتب في “البلاغة ” قديماً وحديثاً ايضاً.
7- التعريب في اللغة -إن اللغة العربية قادرة على التعريب، إي تعريب الألفاظ الأجنبية من لغات أخرى إلى اللغة العربية وان اللغة العربية قادرة أيضاً على تهذيب هذه الالفاظ الدخيلة وإخضاعها إلى موازين اللغة العربية. أُشير إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر: الهاتف، المذياع، السيارة، الثلاجة ، الطائرة، الدبابة، الصاروخ وغيرها. فاللغة العربية تمتاز بالثبات كما تمتاز بالتطور أيضاً فهي تتقبل ألفاظا دخيلة وتعربها. ولكن لا يعني هذا أننا نقر بوجود ألفاظ معربة في القرآن الكريم.

خاتمة ومناشدة
أن هذه الميزات مجتمعة غير موجودة في أي لغة من لغات العالم سوى اللغة العربية، وبخاصة في ديمومتها وفي كل ما له علاقة بعلم التجويد الذي يعد فريدا في مجاله. وبمعنى آخر: ان لكل لغة من لغات العالم بعض المميزات، ولكن لا تتضمن هذه اللغات الميزات مجتمعة كما هو حاصل في اللغة العربية – لغة القرآن الكريم. وكذلك لا توجد ميزة ايجابية في أي لغة من لغات العالم إلا وتكون موجودة في اللغة العربية التي هي في حقيقتها أم اللغات. من هنا يكمن السر الإلهي في اختيار اللغة العربية لأن تكون لغة الإعجاز وأن يتكفلها الله عز وجل بحفظه حيث تكفل القرآن الكريم. ويمكن القول:ان دراسة اللغة العربية وتدريسها وحمايتها والمحافظة عليها هي عبادة من العبادات الوجوبية: منها ما هو واجب عيني، ومنها ما هو واجب كفائي.
وبهذه المناسبة أناشد بل أطالب مدرسي ومدرسات مساق التربية الإسلامية ومساق اللغة العربية في مختلف مراحل التدريس ان يبذلوا الجهود المثمرة الطيبة لتحبيب هذه اللغة إلى قلوب الطلاب والطالبات وإلى عقولهم وترغيبهم فيها، فيتعلق بحق المدرسين والمدرسات الواجب العيني.
كما أناشد بل أطالب الطلاب والطالبات في مختلف مراحلهم الدراسية ان يدرسوا هذه اللغة على انها عبادة من العبادات، وليس مجرد تكليف للامتحان. ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن حب الطالب أو الطالبة للغة العربية نابع من حبهما للقرآن الكريم وأن كل من يتعمق في دراستها فانه يتذوق جمالها ويحبها أكثر فأكثر، فدراستها عبادة والمحافظة عليها أيضا عبادة.
اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل وارزقنا اليقين.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين.