حديث الجمعة الديني : “نكسة أم نكسات”
29 أغسطس، 2016حديث الجمعة الديني : “نكسة أم نكسات”
لقد شاءت إرادة الله العلي الكبير أن تكون أرض فلسطين- أرض المحشر والمنشر هدفاً للأطماع، وأن يكون أهلها المرابطون هدفاً للإختبار الصعب وللإمتحان العصيب. وأكتفي باستعراض موجز لأبرز ما حلّ بفلسطين من نكسات متوالية منذ القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا، وذلك حينما بدأ تدهور الأوضاع لدى الدولة العثمانية، حتى أطلق على الدولة العثمانية بالرجل المريض، وتتمثل هذه النكسات بما يأتي:
1- أصدر القائد الفرنسي نابليون بونابرت (توفي في 5 مايو (أيار) عام 1821) بياناً عرف ب(نداء مونبليه) تتضمن دعوة يهود العالم للتجمع في فلسطين، وذلك بعد هزيمته على أسوار عكا بفلسطين (عام 1799) وبعد انسحابه من مصر (عام 1801).
2- فتح قنصليات للدول الأجنبية في مدينة القدس، ومن هذه الدول بريطانيا (عام 1838) وروسيا (عام 1842) والنمسا (عام 1848) واليونان (عام 1862) وايطاليا (عام 1872) وإيران (عام 1886)، وكان لهذه القنصليات نشاطات سياسية تحت غطاء مشاريع صحية وتعليمية.
3- انعقاد المؤتمر الصهيوني في مدينة بازل في سويسرا، يقال له (مؤتمر بال) حسب لغات أخرى؛ وكان ذلك عام 1315ه/ 1897م، وتمخض عن هذا المؤتمر قرارات (بروتوكولات حكماء صهيون) والتي تنص على وجوب اقامة دولة يهودية في فلسطين.
4- انضمام يهود العالم إلى معسكر الحلفاء في الحرب العالمية الأولى والتي بدأت عام 1914م وانتهت عام 1918م بهزيمة تركيا وزوال الخلافة العثمانية.
5- صدور اتفاقية (سايكس بيكو) عام 1916م والتي تضمنت تقسيم الأقطار الإسلامية لتخضع تحت الاستعمار البريطاني أو الفرنسي.
6- أصدر المدعو (آرثر جيمس بلفور) وزير خارجية بريطانيا وقتئذ تصريحاً بأن يكون لليهود وطن قومي في فلسطين، وعرف هذا التصريح بوعد بلفور، وكان ذلك في 2/11/1917م، فقد صدر هذا الوعد ممن لا يملك لمن لا يستحق، وهذا ما قيل في حينه.
7- صدور صك الانتداب البريطاني على فلسطين في 24/7/1922م، وكان أول مندوب بريطاني يحكم فلسطين يدعى (هاربرت صموئيل) وهو يهودي الديانة، وذلك لتنفيذ المخطط المرسوم بزيادة عدد اليهود في فلسطين، والتمهيد لاقامة دولة يهودية فيها.
8- نكبة عام (1948) وذلك حين انسحب الجيش البريطاني من فلسطين بتاريخ 15/5/1948م وسلم البلاد لعصابات الهاجانا الصهيونية،ونتج عن ذلك أن سقطت 80% من مساحة فلسطين الكلية بيد هذه العصابات، وبقي 20% من فلسطين (الضفة الغربية بما في ذلك القسم الشرقي من مدينة القدس وقطاع غزة) وتمّ تهجير (850) ألف لاجئ، وقد أصبح عددهم الآن ستة ملايين أو ما يزيد.
9- نكبة عام 1967م حيث وقعت حرب حزيران (يونيو) أو قل مهزلة حزيران، والتي عرفت بحرب الأيام الستة، وسقط ما تبقى من أرض فلسطين بما في ذلك القدس الشرقية والتي تضم البلدة القديمة بما فيها المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة وسائر المقدسات الإسلامية والمسيحية، كما سقطت وقتئذ صحراء سيناء في مصر، والجولان (الهضبة السورية) في سوريا، ووادي عربة في الأردن.
10- النكبة الحالية: تهويد مدينة القدس ، وانتشار الاستيطان السرطاني حول القدس ، وفي أنحاء الضفة الغربية، وهذه النكبة هي أخطر المحطات وهي حصيلة النكبات السابقة.
لماذا النكسات المتوالية؟
إن حصول النكسات المتوالية نتيجة عدم وجود مَنْ يُجير ومَنْ يستجيب. لقد حصلت هذه النكسات والنكبات منذ القرن التاسع عشر لعدم وجود حاكم كالمعتصم ولعدم وجود قائد كصلاح الدين لفلسطين.
وجوب تلبية الاستجارة والحماية
قال الله سبحانه وتعالى : ” وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ “سورة التوبة (براءة) الآية 6.
هذه الآية الكريمة من سورة التوبة (براءة) وهي مدنية، وفيها أمر من الله عزّوجل لرسوله محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم- أن يجير ويحمي أي شخص من المشركين إذا استجار به وطلب الحماية منه، وأن ينصحه ويسمعه كلام الله ثم يوصله مأمنه (أي إلى بلده آمناً ) على نفسه وماله من غير خداع ولا غدر ولا خيانة، وإن الهدف من شرح الإسلام لهم لأنهم يجهلون حقيقة هذا الدين العظيم الذي يدعو إلى الأمن والأمان، وإلى العزة والكرامة والاطمئنان. وهذه إشارة واضحة إلى حرص الإسلام على هداية البشرية، وعلى حسن المعاملة وكرم الأخلاق والوفاء بالعهود والمواثيق والعقود، وهذه الآية الكريمة هي تشريع لجميع المسلمين في كل زمان ومكان. فكيف إذا كان المستجير مسلماً؟!.
المعتصم والمرأة المستجيرة
ألم تقرأوا في تاريخ الحضارة الإسلامية عن موقف المعتصم بالله الخليفة العباسي؟ هو محمد بن هارون الرشيد الذي كان يلقب بالمعتصم بالله، وكانت وفاته 237هـ/ 840م. حيث لم يتوانَ ولم يتلكأ عن نصرة امرأة واحدة استنجدت واستجارت به بقولها “وامعتصماه” لان الروم قد اعتدوا عليها وأسروها في شمال العراق، إنه المعتصم بالله الذي أقسم بالله أن يحررها وأن يحرر جميع الأسرى الذين وقعوا في قبضة الروم المعتدين. فجهز الخليفة المعتصم جيشاً لجباً (كبيراً قوياً) وتوجه إلى بلاد الروم لتأديب ملك الروم وقتئذ، ولإنقاذ هذه المرأة وسائر الأسرى من الأسر. وتمكن المعتصم من فتح مدينة عمورية مسقط رأس ملك الروم، وذلك سنة 232هـ/ 836م والتي تقع في بلاد الأناضول بتركيا. ولما عاد المعتصم منتصراً إلى مدينة سامراء (في العراق) استقبله المواطنون استقبالاً حافلاً عظيماً، وجاشت المشاعر الفياضة لدى الشاعر أبي تمام ونظم قصيدته البائية الشهيرة والتي مطلعها:
السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحدّ بين الجدِّ واللعبِ.
ويقول فيها مشيراً إلى معركة عمورية:
يا يوم وقعة عمورية انصــــرفت منك المنى حفلاً معسولة اللجب.
المؤمن للمؤمن
إننا نؤكد على حقيقة ناصعة لا جدل فيها بأن المؤمن هو أخ للمؤمن أحب أم كره، وأن المسلمين جميعاً بمختلف ألوانهم وأصولهم وقومياتهم يشكّلون أمة إسلامية واحدة ذات رسالة خالدة هي رسالة الإسلام.
وهناك عشرات الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تصرح بذلك، وأكتفي بالإستدلال بأربع آيات كريمة وبأربعة أحاديث نبوية شريفة:
1- يقول الله سبحانه وتعالى: ” كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ” سورة آل عمران-الآية 110.
2- ” إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ” سورة الأنبياء- الآية 92.
3- ” وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ “سورة المؤمنون –الآية 52.
4- ” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ “سورة الحجرات-الآية 10.
ويقول رسولنا الأكرم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم- :
1- “المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على من سواهم” رواه أبو داود والنسائي عن الصحابي الجليل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه. كما رواه ابن ماجه عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما-.
2- “ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” متفق عليه عن الصحابي الجليل النعمان بن بشر –رضي الله عنهما.
3- “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً” متفق عليه عن الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه-.
4- “المسلم أخو المسلم : لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره” متفق عليه عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- . ورواه مسلم عن الصحابي الجليل أبي هريرة –رضي الله عنه-.
الخذلان والإذلال
إني إذ أسوق ثلاث آيات كريمة وثلاثة أحاديث نبوية شريفة تتضمن تذكيراً للمسلمين بوجوب تحمل المسؤولية كما تتضمن تحذيراً من الخذلان والتقاعس عن نصرة المظلومين والمضطهدين.
1- يقول الله عزّوجل: ” وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ “سورة الأنفال الآية 76. وتفيد هذه الآية الكريمة بأن المسلمين إذا طلبوا النصرة والنجدة من إخوانهم فإنه يتوجب عليهم أن يلبوا النداء وأن ينصروهم وأن يقفوا إلى جانبهم، إلا إذا وجد عهد وميثاق مع الدول المعاهدة والمسالمة كما نصت الآية الكريمة.
2- ” يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ “سورة الشعراء-الآيتان 88 و89.
3- ” وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ” سورة الصافات-الآية 24.
أما الأحاديث النبوية الشريفة فهي:
1- يقول رسولنا الأكرم محمد –صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي عن الله عزّوجل: “وعزّتي وجلالي لأنتقمنّ من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمنّ ممن رأى مظلوماً فقدر أن ينصره فلم ينصره” رواه الطبراني في الكبير وفي الأوسط عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما-. وفي رواية “فلم يفعل” بدلاً من “فلم ينصره” والمعنى واحد.
2- “ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته” –رواه أبو داود في سننه والطبراني في الأوسط عن الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري –رضي الله عنه-.
3- “من أذل عند قوم فلم ينصره، وهو يقدر أن ينصره، إلا أذله الله عزّوجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة”- رواه أحمد والطبراني عن الصحابي الجليل سهل بن حنيف –رضي الله عنه-. فإن الله عزّوجل سيذلّ من يتخلى عن نصرة أخيه، فالأحاديث النبوية الشريفة صريحة وواضحة في التحذير من الخذلان وعدم النصرة- هذا وقد سبق لي أن أصدرت مؤخراً فتوى شرعية بهذا الخصوص.
الخاتمة
إن ديننا الإسلامي العظيم هو دين العقيدة والنظام والحضارة والعزة والكرامة، وهو يدعو إلى الوحدة والتضامن والتكافل الاجتماعي، وتحقيق العدالة بين المواطنين جميعاً، كما يدعو إلى نصرة المظلوم والدفاع عن الضعيف والفقير والمسكين والمسحوق؛ وإلى حمايتهم وعدم خذلانهم وعدم التخلي عنهم. هذا أن ديننا الإسلامي العظيم يحرم سفك الدماء وإزهاق الأرواح وقتل الأبرياء، ويدعو إلى سعادة البشرية وليس إلى قتلهم وإبادتهم. ويدعو أيضاً إلى الأمن والأمان والطمأنينة والسلام. وعلى المسلمين جميعاً أن يقفوا صفاً واحداً في وجه الظلم والعدوان ” وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ” سورة آل عمران-الآية 103. ” إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ” سورة آل عمران-الآية 160.
فهل من مدكر؟؟ هل من متعظ؟؟
وصلى الله على سينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين